المجال التعليمي : إشكالية " في فلسفة العلوم "
الوحدة التعليمية : مشكلة2" الرياضيات و المطلقية "
مقدمة وطرح المشكلة: إذا كان لكل شيء أصل ، ولكل علم مصدر ، فما أصل الرياضيات – هذه الصناعة المجردة – وما مصدر مفاهيمها ، فهل ترتد كلها إلى مدركاتنا الحسية ، و إلى ما انطبع في أذهاننا من صور ، استخلصناها من العالم الخارجي ؟ أم تعود في حقيقتها إلى العقل الصرف ؟ و إذا كان نفوذها المثبت في مجالي التفكير المنطقي و التفكير العلمي ، يعود إلى دقة منهاجها و نتائجها ، فهل يمكن القول بأن الرياضيات تحافظ في كل الأحوال ، على حصانتها و عصمتها ؟ أليس من حق الفيلسوف أن يطرح ، إلى مدى يمكن أن تصل هذه الصناعة في الدفاع عن صرامتها و صحتها ؟
س / ما المقصود بالرياضيات ؟
ج / تعرف الرياضيات بأنها علم المقادير أي : العلم الذي يدرس الكم في الأشياء و في الكون و لا تبحث الرياضيات في هذه الموضوعات من حيث هي معطيات حسية بل تبحث فيها على أنها رموز مجردة مجالها التصور العقلي المحض لأنها إنشاءات عقلية لها علاقاتها المجردة التي تربط بينها . وكانت الرياضيات القديمة تنظر إلى هذا الكم على أنه على أنه نوعان :
1 – كم متصل : Quantité Continu
هو ذلك المفهوم الذي يزيد أو ينقص دون أن تتخلله فجوة أو يحدث فيه انقطاع ؛ وهو موضوع الهندسة التي تدرس المكان و الزمان و الحركة فمثلا الخط المستقيم هو امتداد موصل بين أجزائه اللامتناهية و إلا لما كان خطا مستقيما ، بل كل المواضيع التي تتعلق بالدراسات الخاصة بمختلف الأشكال الهندسية كالمربع و المستطيل والمثلث ، …، فإن لها علاقة بالمكان – فهذا المكان هو مكان مستمر " Continu" نستطيع أن ننتقل فيه كيفا شئنا دون فجوات فيه ، ثم أن أجزاءه متشابهة "Homogène" و لا كيف محدد لها كما أنه لا ينتهي .و هذا النوع من الكم هو كم عقلي مشخص لكنه مرتبط بالتصور المكاني ( يوافق النظرة الكلاسيكية لموضوع الرياضيات ) .
2 – كم منفصل : Quantité Discontinu
هو ذلك المفهوم الذي لا توجد بين وحداته فجوات لا يمكن ملؤها إلا بقفزات تجاوزية ، فالعدد ( 1 ) لا يمكن العدد أن يصل إلى العدد ( 2 ) إلا بزيادة ( 1 ) عليه ، وكما أيضا العدد ( 1 ) يمكن أن يصبح 1,999 دون أن يبلغ ( 2 ) ؛ و لدلك فإننا نضطر إلى أن نقفز فوق الفاصلة لكي نصل إلى العدد الجديد (2) ؛ لأن الكسور 0,999 يمكن أن تستمر إلى مالا نهاية ، و منه فالأعداد هي وحدات مرصوفة إلى جانب بعضها متمتعة بالاستقلال التام . ولما كان موضوع الكم المنفصل هو الحساب Arithmétique و الجبر Algèbre و توابعهما كدراسة الأعداد ، فإن لها علاقة بالزمان الرياضي لا النفسي باعتباره المجال المناسب لعدد والحساب ، حيث يقابل الانتقال من وحدة حسابية إلى أخرى ، و يدعى هذا النوع من الكم كما عقليا مجردا ، أي له معنى خاص قائم في أذهاننا مستقل عن أي معدود .
س / ما المقصود بالتفكير الرياضي ؟
ج / ذلك النشاط الذهني الذي يقوم به الباحث الرياضي ، هادفا ورائه الوصول إلى الحقيقة الرياضية برهنة كانت أو نظرية أو مبدأ ، فالتصور الرياضي إنشائي بحت ، نظري ، مجرد .
1 _ أصل المفاهيم الرياضية :
السؤال المشكل: إذا كان العقليون يرجعون المفاهيم الرياضية إلى العقل و التجريبيون إلى التجربة . فكيف يمكن تهذيب هذا التناقض ؟
مقدمة : لقد أولع الإنسان منذ الزمن الغابر على طلب الحقيقة بكل أصنافها ؛ منها النمط الفلسفي و النمط العلمي و أعظمها شأنا النمط الرياضي ، الذي واكب كل تطورات الإنسان عبر العصور و ميز أعظم الحضارات بقوتها المادية ، لكن التفكير الفلسفي – سيد المعارف في العصور القديمة و العصور الوسطى – اهتم بالمعرفة الرياضية اهتماما تعلق بمناهجها ، بمنطلقاتها ، و قبله تساءل حول نشأتها ؛ فانقسم المفكرون في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية إلى نزعتين ، نزعة عقلية أو مثالية يرى أصحابها أن المفاهيم الرياضية من ابتكار العقل دون التجربة ، ونزعة تجريبية أو حسية يذهب أنصارها إلى أن المفاهيم الرياضية مهما بلغت من التجريد العقلي ، فإنها ليست من العقل في شيء ، بل يكتسبها الإنسان عن طريق تجاربه الحسية . فما حقيقة الأمر؟ فهل المفاهيم الرياضية في نموها انبثقت من التجربة أم من العقل ؟ أي الفريقين على صواب ؟
1 – الأطروحة : إن المفاهيم الرياضية ، فيما يرى الموقف العقلي أو المثالي ، نابعة من العقل و موجودة فيه قبليا ، أي بمعزل عن كل تجربة . فهي توجد في العقل قبل الحس أي أن العقل لم يفتقر في البداية إلى مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن من تصور مفاهيمه ودليلهم على ذلك أننا إذا تصفحنا تلك المعرفة وجدناها تتصف بمميزات منها ، المطلقية و الضرورة والكلية ، وهي مميزات خالصة موجودة في المعرفة الرياضية، وتتعذر في غيرها من العلوم التي تنسب إلى التجربة و لقد وقف للدفاع عن هذا الرأي عدد من الفلاسفة من العصر القديم إلى العصر الحديث أمثال أفلاطون و ديكارت وإيمانويل كانط نذكر مواقفهم فيما يلي :
أ : نجد التفسير المثالي القديم مع الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي أعطى السبق للعقل الذي – بحسبه – كان يحيا في عالم المثل ، وكان على علم بسائر الحقائق ، ومنها المعطيات الرياضية الأولية التي هي أزلية وثابتة مثل المستقيم و الدائرة و التعريف الرياضي و يقول في هذا الصدد " الدائرة هي الشكل الذي تكون جميع أبعاده متساوية عن المركز "
ب : أما الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت يرى أن المعاني الرياضية من أعداد و أشكال رياضية هي أفكار فطرية مثل فكرة الله و ما يلقيه الله في الإنسان من مفاهيم لا يجوز فيه الخطأ . و ديكارت قبل أن يصل إلى رسم منهجه المعرفي و اكتشافه لفكرة الكوجيتو كان قد شك في كل المعارف التي تلقاها من قبل إلا المعاني الرياضية التي وجدها تتميز بالبداهة والوضوح وعلى منوالها فيما بعد بنى نظرتيه المعرفية مؤسسا لمذهب العقلي .
ج : أما زعيم الفلسفة النقدية الفيلسوف الألماني كانط يعتبر أن المكان و الزمان مفهومان مجردان سابقان لكل تجربة و لا يمكن للمعرفة أن تتم إذا لم تنتظم داخل إطار الزمان والمكان القبليان
النقد : لكن مهما بدت هذه المعاني الرياضية مجردة فإنه لايمكن القول بأنها مستقلة عن المعطيات الحسية و إلا كيف يمكننا أن نفسر الاتجاه التطبيقي للهندسة والحساب لدى شعوب الحضارات الشرقية القديمة .
نقيض الأطروحة :إن المفاهيم الرياضية مثل جميع معارفنا فيما يراه الحسيون و التجريبيون أمثال جون لوك و دافيد هيوم و جون ستيوارت ميل لم ترد على الإنسان من أي جهة أخرى غير العالم الواقعي الحسي أو التجريبي فهو مصدر اليقيني للمعرفة ، وبالتالي لجميع الأفكار و المبادئ ، و أن كل معرفة عقلية هي صدى لإدركاتنا الحسية عن هذا الواقع و على هذا الأساس ، تصبح التجربة المصدر اليقيني لكل معارفنا ، و أنها هي التي تخط سطورها على العقل الذي هو شبيه بالصفحة البيضاء و ليس ثمة في ذهنه معارف عقلية قبلية مستقلة عما تمده لنا الخبرة وتلقنه له الممارسات و التجارب ، و في هذا يقولون " لا يوجد شيء في الذهن ما لم يوجد من قبل في التجربة " و أدلتهم كثيرة نبينها فيما يلي :
أ : فمن يولد فاقد للحاسة فيما يقول هيوم ، لا يمكنه بالتالي أن يعرف ما كان يترتب على انطباعات تلك الحاسة المفقودة من أفكار . فالمكفوف لا يعرف ما اللون و الأصم لا يعرف ما الصوت . أما ميل يرى أن المعاني الرياضية كانت " مجرد نسخ " جزئية للأشياء المعطاة في التجربة الموضوعية حيث يقول : " إن النقاط و الخطوط و الدوائر التي عرفها في التجربة ". و لهذا ، فإن الرياضيات تعتبر عند ميل و غيره من الوضعيين المعاصرين علم الملاحظة
ب : توجد شواهد أخرى تؤيد موقف التجربين منها أصحاب علم النفس و أصحاب علم التاريخ . فالطفل في نظر علماء النفس في مقتبل عمره يدرك العدد مثلا ، كصفة للأشياء و أن الرجل البدائي لا يفصله عن المعدود ، إذ نراه يستخدم لكل نوع من الأشياء مسميات خاصة ، و أكثر من ذلك فلقد استعان عبر التاريخ عن العد بالحصى و بالعيدان و بأصابع اليدين و الرجلين و غيرهما و هذا ما يدل على النشأة الحسية و التجريبية للمفاهيم الرياضية بالنسبة للأطفال و البدائيين لا تفارق المجال الإدراكي الحسي و كأنها صفة ملابسة للشيء المدرك . و أكد الدارسين لتاريخ العلم أن الرياضيات قبل أن تصبح معرفة عقلية مجردة قطعت مرحلة كلها تجريبية فالهندسة ارتبطت بالبناء والتصاميم و تقدير مساحات الحقول و الحساب ارتبط بعد الأشياء فقط من أجل تحديد القيمة . الجمع و الطرح و القسمة و الضرب و هذا ما نجده عند الفراعنة و البابليين .
النقد : لكن مهما بدت هذه المعاني الرياضية محسوسة و تجريبية فإنه لا يمكن القول بأنها مستقلة عن المعطيات العقلية التجريدية و إلا كيف يمكننا أن نفسر المطلقية في الرياضيات " الرياضيات تكون صحيحة متى ابتعدت عن الواقع " و تأثيرها على جميع العلوم إلى درجة أصبحت معيار كل العلوم .
3 – التركيب : المفاهيم الرياضية وليدة العقل و التجربة معا
نجد أن المهذبين المتعارضين في تفسير نشأة المفاهيم الرياضية قد فصلوا تماما بين العقل و التجربة ، رغم أن تاريخ الرياضيات يبين لنا أن المعاني الرياضية لا يمكن اعتبارها أشياء محسوسة كلها ، و لا مفاهيم معقولة خالصة ، بل يمكن أن يتكاملا معا لتفسر نشأة المعاني الرياضية ، لأن هذه المعاني لم تنشأ دفعة واحدة ، بل نمت و تطورت بالتدرج عبر الزمن ، فقد بدأت المفاهيم حسية تجريبية في أول أمرها ، ثم تطورت و أصبحت مفاهيم استنتاجية مجردة ، بل تعبر عن أعلى مراتب التجريد ، باستعمال الصفر ، الأعداد الخيالية ، و المركبة ، و المنحنيات التي لا مماس لها …لهذا قال " بياجي " : " إن المعرفة ليست معطى نهائيا جاهزا ، و أن التجربة ضرورية لعملية التشكيل و التجريد " .
حل الإشكالية : و عليه يمكن القول : إن الرياضيات هي عالم العقل و التجريد ، و ليس هناك حد يقف أمام العقل في ابتكار المعاني الرياضية ، و في الكشف عن العلاقات ، و توظيفاتها ، و هي حرية لا يحدها سوى أمر واحد هو الوقوع في التناقض . و هذا ما يؤدي إلى الخطأ أو فساد النسق الاستدلالي .
2- الرياضيات كنسق مجرد : هل تضمن الصحة و اليقين في كل الأحوال ؟
و إذا كان موضوع الرياضيات يتحدد في أنه جملة من المفاهيم المجردة ينشئها الذهن و يجردها من كل اعتبار حسي ، و أنه ذو خصائص معينة تمتعه بوجود موضوعي مستقل ، فإنه بواسطة هذا الموضوع ، يقوم الرياضي بكل إنشاء و بناء .و لما كان كل بناء ينهض وفق منهج ، فإن هذا المنهج يستوحى في الغالب ، من طبيعة الموضوع ؛ لذا ، علينا أن نتساءل عن المنهجية التي يتبعها الرياضي في البرهنة على استنتاجاته ، و ما يترتب عن ذلك من نتائج .
أولا : من حيث المنطلقات و المنهج :
منطلقات المنهج : يقصد بها المبادئ أو الأسس التي يعتمد عليها الرياضي عندما يقيم براهينه حول قضايا يستدل على صحتها وهي مختلفة بين العصر القديم والعصر المعاصر.
أ – في الرياضيات الكلاسيكية : تتضمن الرياضيات التقليدية مجموعة من المبادئ وهي ذات المبادئ التي وضعها العالم الرياضي " إقليدس " ( 306 ق م – 283 ق م) لكي يبني نسقا رياضيا متكاملا في موضوعه ونتائجه فماهي هذه المبادئ ؟
البديهيات :هي قضايا أولية يصدق بها العقل دون برهان وهذا حسب تعريف" باسكال "
فهي عامة أي تشمل كل العلوم وتستخدم في كل برهان فهي في الحقيقة مبدأ عقلي أكثر مما هي مبدأ عملي . ومن أهم البديهيات التي حددها "إقليدس " العالم الرياضي اليوناني :
1 – الكل أكبر من الجزء
2 – الكميتان المساويتان لكمية ثالثة يكون الناتج مساو.
3 – إذا أضفنا نفس الكمية لكميتين متساويتين فهما متساويان
4 – إذا طرحنا نفس الكمية لكميتين متساويتين يبقى الناتج متساو.
مميزاتها :فطرية سابقة عن التجربة غير مكتسبة عامة لا تختص بعلم معين
التعريفات : ونعني بها تحديد مفهوم القضية الرياضية تحديدا اصطلاحيا فالنقطة الرياضية شكل هندسي عديم الأبعاد ، والمثلث شكل هندسي يتكون من تقاطع ثلاثة مستقيمات في ثلاثة نقاط مختلفة مكونة لثلاث زوايا.
المصادرات : وتسمى أيضا المسلمات أو الموضوعات وهي قضايا يصيغها العقل وهي ليست واضحة بذاتها ، يسلم بصدقها الرياضي لكي يستطيع بناء البرهان الرياضي المطلوب في نسق رياضي صحيح وهي قضايا غير مبرهنة لكنها خالية من التناقض ومن المسلمات التي وضعها "إقليدس " :
1 من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نرسم سوى خط مواز له .
2 الخطان المتوازيان لا يلتقيان مهما امتدا
3 المكان ذو ثلاثة أبعاد ( طول عرض ارتفاع )
4 زوايا المثلث تساوي 180 °
مميزاتها : خاصة ومتغيرة غير فطرية فلكل علم مسلماته الخاصة به.
الفرق بين البديهية والمسلمة في الرياضيات الكلاسيكية :
– البديهية قضية رياضية عامة و واضحة أما المسلمة فهي قضية خاصة بفئة رياضية معينة .
البديهية تقوم على ضرورة منطقية إذ رفضها يؤدي بنا إلى الوقوع في التناقض المنطقي أما المصادرة أو المسلمة فهي تقوم على ضرورة منطقية إذ يمكن رفضها دون الوقوع في التناقض كما هو الشأن لكل من مسلمة لوباتشوفسكي ( 1793- 1856) و ريمان(1826 – 1866)
عندما رفضت مسلمة إقليدس .
ب – في الرياضيات المعاصرة و ظهور النسق الأكسيومي :
لقد حاول الرياضيون في مختلف العصور أن يناقشوا مبادئ الهندسة الإقليدية و على الخصوص تلك المصادرة التي مفادها من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نرسم سوى خط مواز له و لكنهم لم يفلحوا في ذلك حيث نجد أن العالم الرياضي المسلم نصر الدين الطوسي في القرن الثاني عشر حاول أن يبرهن على هذه المسلمة إلا أنه عجز لتمسكه بالتصور الإقليدي للأرض ، ثم جاء الأب سكير في القرن السابع عشر و حاول بدوره البرهنة على مسلمة الخطين المتوازيين إلا أنه عجز لاحتفاظه بمصادرة إقليدس . غير أن الرياضيين في العصر الحديث أثاروا المسألة من جديد ، و استطاعوا أن يثيروا شكوك مختلفة حول هذه المسلمة بالذات . فماهي هذه الشكوك ؟ وماذا نتج عنها؟
كان العالم الرياضي لوباتشوفسكي أول من أثار الشك حول مصادرة إقليدس التي ذكرناها قبل حين و تمكن عام 1830 من نقضها حيث اهتدى إلى الأساس الذي تثبت به وهو المكان المستوي ، وتصور مكانا غير الذي تصوره إقليدس من قبل وهو المكان المقعر ( الكرة من الداخل ) و استنتج أنه يمكن رسم متوازيات كثيرة من نقطة خارج مستقيم وجاء بعد ذلك العالم الرياضي الألماني ريمان وشك أيضا في مصادرة إقليدس وتمكن سنة 1854 من نقض مسلمة إقليدس أيضا متصورا المكان محدبا أي ( الكرة من الخارج ) و استنتج بناء على ذلك أنه لا يمكن أن نرسم أي مواز من نقطة خارج مستقيم و هكذا ظهرت هندستان جديدتان مخالفتان لهندسة إقليدس سواء من حيث الأساس و المبادئ .
يمكن أن نلخص ما قلناه فيما يلي : الجدول التالي
أساس الرياضيات الكلاسيكية حسي أي له علاقة بالواقع الحسي
أساس الرياضيات المعاصرة هو عقلي مجرد تصوري لا علاقة له بالواقع الحسي
ظهور النسق الأكسيومي
كيف ظهر النسق الأكسيومي ؟
إن الهندسة اللاإقليدية قد جلبت انتباه الرياضيين و غيرت نظرتهم لمبادئ والأسس التي يشيدون عليها أنساقهم الرياضية ، وأصبح التمييز بين مبادئ البرهان الرياضي ( بديهيات ، تعريفات ، مسلمات ) أمر ثانوي و إنما تأخذ جميعا كفروض أو منطلقات وقع عليها الاختيار.
إنها بتعبير بوانكاري ( 1854 – 1912) مجردة من مواصفات أي قضايا يتفق عليها ، لأن المهم في القضية وظيفتها في البرهان الرياضي ، لا مقدار ما تتمتع به من صدق ووضوح ، فماهو واضح وصادق عند شخص قد يكون غير ذلك عند شخص آخر ومنه نستنتج أن هناك مجموعة من مبادئ الرياضيات الكلاسيكية أصبح الرياضي لا يعير اهتمام لوضوحها و لا حتى لبدا هتها فنجد مثلا أن بديهية الكل أكبر من الكل أصبح من الممكن أن تنقلب إلى الجزء أكبر من الكل.
مثال إذا أخذنا من العناصر { أ ، ب، ج} فإننا نستطيع أن نستخرج منها 8 مجموعات لها نفس الخصائص المجموعة الأصلية تمثل المجموعة وتشمل على عنصر أو عناصر وتوجد بها علاقة الانتماء و هي = { {( أ ) } ،{( ب ) } ، { (ج ) } ، { ( أ ، ب ) } ، { ( أ ، ج ) } ، { ( ب ، ج ) } ، { ( أ، ب ، ج ) } ، { } } .
هذه المجموعات الفرعية في الأصل (جزء من كل) أي من المجموعة الأصلية إلا أن كل مجموعة من المجموعات الفرعية تتمتع بخصائص المجموعة ومن ثم تكافئ المجموعة الأصلية في المقومات الأساسية لشيء الذي يسمح لنا بالقول أن الجزء و هو 8 مجموعات أكبر من الكل .
أساليب البرهنة في المنهج
أ – تعريف البرهان الرياضي : هو المنهج المرشد والدليل المتبع في استنباط قضية رياضية ما من مبادئ مسلم بصحتها . أو إرجاع نظرية ما عن طريق الاستدلال العقلي إلى أبسط القضايا التي سبق أن سلم بها الرياضي يعتمد على التحليل والتركيب .
بينما في الرياضيات المعاصرة أصبح الرياضي يعتمد على الافتراض و الاستنتاج أي الأكسيوماتيك
1 – أنواع البرهان الرياضي :
أ- البرهان التحليلي المباشر : معناه إرجاع القضية أو النظرية المراد البرهنة عليها إلى حد المنطلقات أو الأسس ( البديهيات ، المسلمات ، التعريفات ) التي تعتبر أساس البرهان الرياضي .
الأمثلة : إذا أردنا أن نجد قيمة س في المعادلة التالية :
س + 8 = 10 لإيجاد قيم س يجب أن نطبق البديهية القائلة " إذا طرحنا نفس القيمة من الطرفين سيبقى الناتج نفسه كأن لم نفعل شيئا فتصبح :
س +8= 10
س+8-8= 10- 8
س = 2
البرهان التحليلي الغير مباشر : لكن ، قد يكون التحليل المباشر غير ممكن ، و في هذه الحالة ، سلك الرياضي طريقا آخر غير مباشر ، فيلزم نفسه التسليم بالنتائج من دون أن يرد القضية المراد إثباتها إلى المبادئ الأولية الواضحة . إنه يحاول أن يثبت بأن نقيض القضية المطلوب البرهنة عليها كاذب ، ومن هذا الكذب ، يستنتج صدق قضيته ، و يدعى هذا التحليل غير مباشر بالبرهان بالخلف .
و المثال الموضح لهذه الطريقة هو كالآتي :
أثبت ببرهان بالخلف المطلوب التالي : (أ) يوازي (ب) ، و (ب) يوازي (ج) ، المطلوب : هل (أ) يوازي (ج) ؟
ب – البرهان التركيبي : هو البرهان الذي ننطلق به من قضايا بسيطة نركب منها علاقات جديدة و متنوعة .
مثال : لدينا معادلتين من الدرجة الأولى س + 3 = 0 ، س – 5 = 0
المطلوب : إنشاء معادلة من الدرجة الثانية
( س+ 3 ) ( س- 5 ) = 0
س – 5 س + 3 س – 15= 0
س – 2 س – 15 =0
ثانيا : من حيث النتائج :
إن النتائج التي تترتب عن المنهج الرياضي و طبيعة موضوعه تتسم بأنها : نتائج قطعية تعبر عن اليقين و الدقة و الوضوح ، و هدا راجع إلى بساطتها و شدة انسجامها و ارتباطها فيما بينها .
– إنها نتائج مجردة عن كل مادة حسية ، لأنها تتعامل مع كميات و مقادير بعيدا عن الكيفيات ، و الصفات ، من هنا كانت النتائج الرياضية تعبر عن منظومات ذهنية مجردة متعددة الصور و العلاقات ( الإغراق في التجريد )
– إنها نتائج تتصف بالانسجام مع مبادئها و منطلقاتها التي أنتجتها والالتزام بأنساقها ، و التوافق معها بعيدا عن التناقض مما جعلها تحتل النمذجة في المعرفة و المثال الذي يقتدى به في اليقين .
– إنها نتائج تعبر عن الجدة و الإبداع و الابتكار ، و فعالية العقل ، و ليست مجرد تحصيل حاصل و تكرار للمقدمات .
ثالثا : وهل يمكن وصفها بالصناعة الصحيحة في كل الأحوال ، في منطلقاتها و استنتجتاها ؟
نكتفي تحت هذا السؤال ، بالقول بأن الرياضيات صناعة صحيحة بالنظر إلى العلاقة المنطقية التي تربط المقدمات بنتائجها ، ما دام الفكر الرياضي يبقى وفيا من خلال استدلالاته الاستنتاجية ، بمبدأ عدم تنازع العقل مع نفسه . أما المنطلقات التي يبدأ منها الفكر في برهنته ، فقيمتها تابعة كما سنرى بعد حين ، لتقدير واضعيها و اختيارهم لها .
3 – ما هي حدود الرياضيات و قيمتها ؟
إن التفكير الرياضي ، و بالرغم ما حققه من يقين في أساليب البرهنة و الدقة في النتائج ، فإن له حدودا يقف عندها ، بل و مآخذ وجب الإشارة إليها ، و من أهم هذه المآخذ :
– إن الحقائق الرياضية المتصفة باليقين ، و الصدق عندما تنزل إلى التطبيقات التجريبية ، تفقد دقتها ، و تقع في التقريبات ، أي أن التعامل معها واقعيا يفقدها دقتها و تصير مجرد احتمالات تقريبية ممكنة .
– كما أن العلوم التي تحاول أن تتصف بمميزات المنهج الرياضي الصرف تقع في الأخطاء و الالتباسات ، لذلك لابد من الحذر في التعامل معها و الأخذ بها ، لهذا يصرح " ديكارت " أن المنهج الاستنتاجي الخالص أوقعه أكثر من مرة في شباك الأخطاء .
– ضف إلى هذا أن المفاهيم الرياضية لا يمكن أن نصفها بالمطلق و عدم التغير ، و هذا ما يثبته تعدد الهندسات و الأنساق فيها ، مما يعني أنها مجرد افتراضات تهتم بالانسجام المنطقي بين أجزائها ، وهذا ما يظهر في منهج الأكسيوماتيك – كما رأينا ذلك من قبل – ، لهذا قيل " كثرة الأنظمة في الهندسة دليل على أن الرياضيات ليس فيها حقائق مطلقة " . بوليغان ، و قال " برتراندرسل " ساخرا : " إن الرياضيات هي العلم الذي يعرف عما يتحدث ، و لا إذا كان ما يتحدث عنه صحيحا " .
و كل هذا يثبت أن الرياضيات و ما تصل إليه من مفاهيم تعتبر مجرد استنتاجات و اجتهادات إبداعية ، لا يعني أنها لازمة الأخذ بها أو أنها نهائية تامة من كل نقص ، بل يمكن التعديل فيها ، و الإضافة لها أو حتى تجاوز بعضها و تغييرها ، بحسب الاجتهاد و الإبداع الإنساني في عالم التجريد الرياضي .
إذا الرياضيات بناء نسقي ، مفاهيمها لا تصل إلى اليقين و المطلق إلا في إطار أنساقها الخاصة .
لكن برغم هذه المآخذ عن الرياضيات ، لا يجب أن تحملنا على الشك في قيمة الرياضيات ، لأنها تبقى اللغة السليمة التي يعشقها العقل و تستعيرها العلوم لتجاوز شروط التجربة المتغيرة ، لهذا تبقى الرياضيات تحتل إلى جانب قيمها العقلية ، تنطوي على قيمة من الناحية النفعية تجسدها استعمالات العلوم المختلفة .
خاتمة المشكلة : الرياضيات بموضوعها ، و منهجها ، و نتائجها ، و لغتها ، تبقى تحتل النموذج الأرقى الذي بلغته العلوم دقة ويقينا ، و أن لغتها صارت ضرورة يتطلع إلى اكتسابها كل تفكير علمي ، مما يعني أن الرياضيات تمثل نموذج اليقين ، المعبر عن المطلقية .