الحمد لله الذي شرع لعباده صيام شهر رمضان وجعله أحد أركان الإسلام، والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل من صلى وصام وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وبعد:
فلا يفصلنا عن شهر رمضان إلا أيام معدودات ، و سيكون هذا الموضوع متسلسلا
يحوي دروسا تتضمن التذكير بفضائل هذا الشهر المبارك والحث على الجد والاجتهاد فيه، واغتنام أيامه ولياليه مع الإشارة إلى بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام والقيام، قصدت بكتابتها تذكير نفسي وإخواني سائلا الله أن ينفع بها من كتبها ومن قرأها ومن سمعها من المسلمين وأن يغفر لي ما وقع فيها خطأ أو تقصير… وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
في بيان متى فُرض صوم شهر رمضان على الأمة ؟
الحمد لله ذي الفضل والإنعام، شرع الصيام لتطهير النفوس من الآثام، والصلاة والسلام على نبينا محمد، خير من صلى وصام، وداوم على الخير واستقام، وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى به على الدوام، أما بعد:
قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة 183].
والآيات بعدها، فقد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات الكريمة أنه كتب الصيام على هذه الأمة كما كتب على من قبلها من الأمم، وكتب بمعنى فرض فالصيام مفروض على هذه الأمة وعلى الأمم قبلها.
قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: عبادة الصيام مكتوبة على الأنبياء وعلى أممهم من آدم إلى آخر الدهر.
وقد ذكر الله ذلك لأن الشيء الشاق إذا عم سهل فعله على النفوس وكانت طمأنينتها به أكثر.
فالصيام إذا فريضة على جميع الأمم، وإن اختلفت كيفيته ووقته،
قال سعيد بن جبير: كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة، كما كان في ابتداء الاسلام، وقال الحسن: كان صوم رمضان واجبا على اليهود، لكنهم تركوه وصاموا يوما في السنة زعموا أنه يوم غرق فرعون وكذبوا في ذلك، فإن ذلك اليوم يوم عاشوراء، وكان الصوم أيضا واجبا على النصارى لكنهم بعد أن صاموا زمانا طويلا صادفوا فيه الحر الشديد فكان يشق عليهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف فجعلوه في الربيع، وحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل: زيدوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا، فصار أربعين.
وقوله تعالى {لعلكم تتقون}: أي بسبب الصوم، فالصوم يسبب التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات، وقوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} قيل هي أيام من غير رمضان وكانت ثلاثة أيام، وقيل هي أيام رمضان، لأنه بينها في الآية التي بعدها بقوله {شهر رمضان}.
قالوا: وكانوا في أول الإسلام مخيرين بين الصوم والفدية لقوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} [البقرة 184] ثم نسخ التخيير بإيجاب الصوم عينا بقوله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185]، وحكمة ذلك التدرج في التشريع والرفق بالأمة لأنهم لما لم يألفوا الصوم كان تعيينه عليهم ابتداء فيه مشقة، فخيروا بينه وبين الفدية أولا، ثم لما قوي يقينهم واطمأنت نفوسهم وألفوا الصوم وجب عليهم الصوم وحده، ولهذا نظائر في شرائع الإسلام الشاقة، فهي تشرع بالتدريج، لكن الصحيح أن الآية منسوخة في حق القادر على الصيام، وأما في حق العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فالآية لم تنسخ في حقهم، فلهم أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكينا، وليس عليهم قضاء.
أما غيرهم فالواجب عليهم الصوم، فمن أفطر لمرض عارض أو سفر فإنه يجب عليه القضاء لقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة 185]
وقد فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات وصار صوم رمضان حتما وركنا من أركان الإسلام من جحد وجوبه كفر، ومن أفطر من غير عذر وهو مقر بوجوبه فقد فعل ذنبا عظيما يجب تعزيره وردعه وعليه التوبة إلى الله، وقضاء ما أفطر.
هذا وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
يتبع إن شاء الله
في بيان ما يثبت به دخول شهر رمضان المبارك
الحمد لله الذي جعل الأهلة مواقيت للناس، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
قال الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185] فقد أوجب الله سبحانه في هذه الآية على عباده صوم شهر رمضان كله من أوله إلى آخره، وأوله يعرف بأحد أمرين:
الأمر الأول:
رؤية هلاله لما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له" [أخرجه البخاري رقم 1900، ومسلم رقم 1080/8].
وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه" [أخرجه البخاري رقم 1906، ومسلم رقم 1080/3، واللفظ لهما وفيه عندهما زيادة وهي الجملة الأخيرة في الحديث السابق وهي قوله "فإن غم عليكم فاقدروا له" كما في البخاري "فإن أغمى عليكم فاقدروا له" وهي عند مسلم]، وروى الطبراني عن طلق بن علي رضي الله عنه: "أن الله جعل هذه الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" [أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 8/397 رقم 8237].
وروى الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوما لرؤيته وأفطروا لرؤيته" [أخرجه الحاكم في المستدرك 1/423 وأحمد في المسند 4/ 23 والدارقطني في سننه 2/163 وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي].
ففي هذه الأحاديث الشريفة تعليق وجوب صوم رمضان برؤية هلاله، والنهي عن الصوم بدون رؤية الهلال، وأن الله جعل الأهلة مواقيت للناس بها يعرفون أوقات عبادتهم ومعاملاتهم، كما قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة 189] وهذا من رحمة الله بعباده وتيسيره لهم، حيث علق وجوب الصيام بأمر واضح وعلامة بارزة يرونها بأعينهم، وليس من شرط ذلك أن يرى الهلال كل الناس بل إذا رآه بعضهم ولو كان شخصا واحدا لزم الناس كلهم الصيام.
قال ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، يعني هلال رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله"قال: نعم، قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا" رواه أبو داود.
وروى أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" [أخرجه أبو داود رقم 2342].
الأمر الثاني:
مما يثبت به دخول شهر رمضان إذا لم يُر الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، قال عليه الصلاة والسلام: "فإن غم عليكم فاقدروا له " متفق عليه، ومعنى "غم عليكم" أي إذا غطى الهلال شيء حال دون رؤيته ليلة الثلاثين من شعبان ـ من غيم أو قتر، فقدروا عدد شهر شعبان تاما بأن تكملوه ثلاثين يوما، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" متفق عليه، ومعنى هذا تحريم صوم يوم الشك وقد قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " [أخرجه أبو داود رقم 2334 والترمذي 686 والنسائي 2190 وابن ماجه 1645 وقال أبو عيسى الترمذي: حسن صحيح].
فالواجب على المسلم اتباع ما جاء عن الله ورسوله في صيامه وفي عبادته كلها، وقد حدد الله ورسوله معرفة دخول شهر رمضان بإحدى علامتين ظاهرتين يعرفهما العامي والمتعلم: رؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، فمن جاء بشيء يزعم أنه يجب به الصوم غير ما بينه الشارع فقد عصى الله ورسوله [وزاد على ما شرعه الله ورسوله وابتدع في الدين ماليس منه "وكل بدعة ضلالة"] كالذي يقول إنه يجب العمل بالحساب الفلكي في دخول شهر رمضان، هذا مع أن الحساب عرضة للخطأ وهو أمر خفي لا يعرفه كل أحد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إني رأيت الناس في شهر صومهم وفي غيره أيضا منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض الجهال أهل الحساب من أن الهلال يرى أو لا يرى، ويبني على ذلك إما في باطنه وإما في باطنه وظاهره حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب أنه يرى أو لا يرى فيكون ممن كذّب بالحق لما جاءه" إلى أن قال: "فإنا نعلم بالاضطرار من دين الاسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الايلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث" انتهى [فتاوى شيخ الاسلام 25 / 131، 132].
وفي هذا مشقة على الأمة وحرج، وقد قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج 78] فالواجب على المسلمين الاقتصار على ما شرعه الله ورسوله، كما يجب على المسلمين الاقتصار على ما شرعه الله في غير شأن الهلال، والتعاون على البر والتقوى، والله ولي التوفيق.
يتبع بإذن الله
في فضائل شهر رمضان وما ينبغي أن يستقبل به
الحمد لله أهل علينا شهر الصيام، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، كانوا يفرحون بحلول شهر الصيام والقيام، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى اختص شهر رمضان من بين الشهور بفضائل عديدة، وميزه بميزات كثيرة، قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة 185].
ففي هذه الآية الكريمة ذكر الله لشهر رمضان ميزتين عظيمتين:
الميزة الأولى: إنزال القرآن فيه، لأجل هداية الناس من الظلمات إلى النور وتبصيرهم بالحق من الباطل بهذا الكتاب العظيم، المتضمن لما فيه صلاح البشرية وفلاحها، وسعادتها في الدنيا والآخرة.
الميزة الثانية: إيجاب صيامه على الأمة المحمدية حيث أمر الله بذلك في قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185].
وصيام رمضان هو أحد أركان الإسلام، وفرض من فروض الله معلوم من الدين بالضرورة وإجماع المسلمين، من أنكره فقد كفر، فمن كان حاضرا صحيحا وجب عليه صوم الشهر أداء، كما قال الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185] فتبين أنه لا مناص من صيام الشهر، إما أداء وإما قضاء، إلا في حق الهرم الكبير، والمريض المزمن ـ اللذين لا يستطيعان الصيام قضاء ولا أداء فلهما حكم آخر سيأتي بيانه إن شاء الله.
ومن فضائل هذا الشهر ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة وغُلّقت أبواب النار وصُفدت الشياطين" [أخرجه البخاري 1898، 1899، ومسلم 1079].
فدل هذا الحديث على مزايا عظيمة لهذا الشهر المبارك:
الأولى: أنه تفتح فيه أبواب الجنة، وذلك لكثرة الأعمال الصالحة التي تشرع فيه، والتي تسبب دخول الجنة، كما قال تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل 32].
الثانية: إغلاق أبواب النار في هذا الشهر، وذلك لقلة المعاصي التي تسبب دخولها، كما قال تعالى: {فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى} [النازعات 37 ـ 39 ] وقال تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} [الجن: 23].
الثالثة: أنه تصفد فيه الشياطين، أي تغل وتوثق، فلا تستطيع إغواء المسلمين وإغراءهم بالمعاصي، وصرفهم عن العمل الصالح، كما كانت تفعل في غير هذا الشهر، ومنعها في هذا الشهر المبارك من مزاولة هذا العمل الخبيث إنما هو رحمة بالمسلمين لتتاح لهم الفرصة لفعل الخيرات وتكفير السيئات.
ومن فضائل هذا الشهر المبارك أنه تضاعف فيه الحسنات، فروي أن النافلة تعدل فيه أجر الفريضة، والفريضة تعدل فيه أجر سبعين فريضة، ومن فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجر ذلك الصائم من غير أن ينقص من أجره شيء، وكل هذه خيرات وبركات ونفحات تحل على المسلمين بحلول هذا الشهر المبارك، فينبغي للمسلم أن يستقبل هذا الشهر بالفرح والغبطة والسرور ويحمد الله على بلوغه ويسأله الإعانة على صيامه وتقديم الأعمال الصالحة فيه، إنه شهر عظيم، وموسم كريم، ووافد مبارك على الأمة الإسلامية، نسأل الله أن يمنحنا من بركاته ونفحاته.. إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
بيان ما ينبغي أن تشغل به أوقات رمضان المبارك
الحمد لله على فضله وإحسانه، تفضل علينا ببلوغ شهر رمضان، ومكننا فيه من الأعمال الصالحة التي تقربنا إليه، والصلاة والسلام على نبينا محمد كان أول سابق إلى الخيرات، وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.. أما بعد:
فأوصيكم ونفسي في هذا الشهر المبارك بتقوى الله، وفي غيره من الشهور، ولكن هذا الشهر له مزية خصه الله بها، فهو موسم الخيرات، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله ببلوغ رمضان، فكان يقول إذا دخل شهر رجب: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان" [ أخرجه البيهقي في شعب الايمان 7/398 رقم 3534، والبزار في مسنده 1/294ـ295 رقم 616 ـ كشف الأستار، وأبو نعيم في الحلية 6/269، وابن عساكر كما في كنز العمال رقم 18049 وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 4395 وكذا ضعفه محقق الشعب].
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه بقدومه، ويبين لهم مزاياه، فيقول: "أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك" [فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" أخرجه أحمد 2/230، 425 وعبد بن حميد في المنتخب رقم 1443 والنسائي 4 / 129]..
ويحث أصحابه على الاجتهاد فيه بالأعمال الصالحة من فرائض ونوافل، من صلوات وصدقات، وبذل معروف وإحسان، وصبر على طاعة الله، وعمارة نهاره بالصيام، وليله بالقيام، وساعاته بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، فلا تضيعوه بالغفلة والإعراض كحال الأشقياء الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فلا يستفيدون من مرور مواسم الخير ولا يعرفون لها حرمة، ولا يقدرون لها قيمة، كثير من الناس لا يعرفون هذا الشهر إلا أنه شهر لتنويع المآكل والمشارب، فيبالغون في إعطاء نفوسهم ما تشتهي، ويكثرون من شراء الكماليات من الأطعمة والأشربة، ومعلوم أن الإكثار من المآكل والمشارب يكسل عن الطاعة، والمطلوب من المسلم أن يقلل من الطعام والشراب حتى ينشط للطاعة، وبعض من الناس لا يعرف شهر رمضان إلا أنه شهر النوم في النهار والسهر في الليل على ما لا فائدة فيه أو ما فيه مضرة، فيسهر معظم ليله أو كله ثم ينام النهار حتى عن الصلوات المفروضة فلا يصلي مع الجماعة ولا في أوقات الصلاة، وفئة من الناس تجلس على مائدة الإفطار تترك صلاة المغرب مع الجماعة، هذه الفئات من الناس لا تعرف لشهر رمضان قيمة، ولا تتورع عن انتهاك حرمته بالسهر الحرام، وترك الواجبات، وفعل المحرمات، وإلى جانب هؤلاء جماعة لا يعرفون شهر رمضان إلا أنه موسم للتجارة، وعرض السلع وطلب الدنيا العاجلة، فينشطون على البيع والشراء فيلازمون الأسواق ويهجرون المساجد، وإن ذهبوا إلى المساجد فهم على عجل ومضض لا يستقرون فيها، لأن قرة أعينهم في الأسواق، وصنف آخر من الناس لا يعرف شهر رمضان إلا أنه وقت للتسول في المساجد والشوارع فيمضي معظم أوقاته بين ذهاب وإياب وتجوال هنا وهناك وانتقال من بلد إلى بلد لجمع المال عن طريق السؤال، وإظهار نفسه بمظهر المحتاج وهو غني، وبمظهر المصاب في جسمه وهو سليم، يجحد نعمة الله عليه بالغنى والصحة، ويأخذ المال بغير حقه، ويضيع وقته الغالي فيما هو مضرة عليه فما بقي لرمضان من مزية عند هذه الفئات.
عباد الله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذا الشهر أكثر مما يجتهد في غيره، وإن كان عليه الصلاة والسلام مجدا في العبادة في جميع أوقاته فكان يتفرغ في هذا الشهر من كثير من المشاغل التي هي في الحقيقة عبادة، لكنه يتفرغ من العمل الفاضل لما هو أفضل منه، وكان السلف الصالح يقتدون به في ذلك فيخصون هذا الشهر بمزيد اهتمام ويتفرغون فيه للأعمال الصالحة، ويعمرون ليله بالتهجد ونهاره بالصيام والذكر وتلاوة القرآن، ويعمرون المساجد بذلك، فلنقارن بين حالنا وحالهم وما هو مبلغ شعورنا بهذا الشهر، ولنعلم أنه كما تضاعف فيه الحسنات فإنها تغلظ السيئات فيه وتعظم عقوبتها، فلنتق الله سبحانه ونعظم حرماته {ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} [الحج 30].
وفق الله الجميع لصالح القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
في بيان بداية الصيام اليومي ونهايته
فقد قال الله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة 187].
فقد حدد الله سبحانه في هذه الآية الكريمة بداية الصوم اليومي ونهايته بحدود واضحة يعرفها كل أحد، فحد بدايته بطلوع الفجر الثاني، وحد نهايته بغروب الشمس، كما حدد بداية صوم الشهر بحد واضح يعرفه كل أحد، وهو رؤية الهلال، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وهكذا ديننا دين اليسر والسهولة {وما عليكم في الدين من حرج} [الحج 78] فلله الحمد والمنة، وهذا تخفيف من الله على عباده عما كان عليه الحال من قبل تمديد الصيام فترة أطول، فقد روى البخاري عن البراء قال:
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، وفي رواية كات يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام، قالت له: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة 187] ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة 187] [أخرجه البخاري رقم 1915].
وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يختانون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب الله عليكم وعفا عنكم} [البقرة 187]، [أخرجه البخاري رقم 4508].
يقال خان واختان بمعنى، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم، فتاب عليكم أي قبل توبتكم مما حصل، وعفا عنكم: فلم يؤاخذكم وسهل عليم ويسر لكم فأباح لكم النساء والطعام والشراب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، وعند ذلك يبدأ الصائم بالامتناع عن هذه الأشياء وغيرها مما لا يجوز للصائم إلى غروب الشمس، لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة 187] و{إلى} غاية إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها فإنه لا يدخل فيه، والليل ليس من جنس النهار فالصوم ينتهي عند بداية الليل بغروب الشمس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر الليل من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" [أخرجه البخاري رقم 1954 ومسلم رقم 1100].
وبعض الناس يخالفون الوجه الشرعي في السحور والإفطار فطائفة من الناس أو كثير منهم يسهرون الليل، فإذا كان آخر الليل وأرادوا النوم تسحروا قبل الفجر، ثم ناموا وتركوا صلاة الفجر في وقتها مع الجماعة، فيرتكبون عدة أخطاء:
أولا: أنهم صاموا قبل وقت الصيام.
ثانيا: يتركون صلاة الفجر مع الجماعة.
ثالثا: يؤخرون الصلاة عن وقتها فلا يصلونها إلا بعدما يستيقظون ولو عند الظهر، والمبتدعة يؤخرون الإفطار عن غروب الشمس ولا يفطرون إلا عند اشتباك النجوم.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
نسأل الله أن يرزقنا التمسك بالسنة ومجانبة البدعة وأهلها، وصلى الله على محمد.
في بيان حكم النية في الصيام
اعلموا أن النية في الصوم لا بد منها، وهي شرط لصحته، كما أنها شرط لصحة كل العبادات لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وذلك بأن يعتقد عند بداية الصوم أنه يصوم من رمضان أو من قضائه أو أنه يصوم نذرا أو كفارة.
ووقت النية لهذا الصوم الواجب بأنواعه من الليل سواء كان من أوله أو وسطه أو آخره، لما روى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة مرفوعا: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" [أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 172 والبيهقي في سننه الكبرى 4/202 وقال: إسناده كلهم ثقات].
وعن ابن عمر عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له" وفي لفظ "ومن لم يجمع" أي: يعزم "الصيام من الليل فلا صيام له" [أخرجه أحمد في المسند 6 / 287 وأبو داود رقم 2454 والترمذي رقم 730] ولأن جميع النهار يجب فيه الصوم فإذا فات جزء من النهار لم توجد فيه النية لم يصح صوم جميع اليوم لأن النية لا تنعطف على الماضي.
والنية في جميع العبادات محلها القلب ولا يجوز التلفظ بها، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه ولا عن أصحابه أنهم كانوا يقولون: نويت أن أصوم، نويت أن أصلي وغير ذلك، فالتلفظ بها بدعة محدثة، ويكفي في النية الأكل والشرب بنية الصوم.
قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "هو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي رمضان"، وقال أيضا: "كل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى وهو فعل عامة المسلمين" انتهى.
وأما صوم النفل فإنه يصح بنية من النهار بشرط أن لا يوجد مناف للصوم فيما بين طلوع الفجر ونيته من أكل وغيره، لقول عائشة رضي الله عنها "دخل عليَّ النبي صلى الله عليه ذات يوم فقال "هل عندكم من شيء؟" فقلنا: لا، قال "فإني إذاً صائم" رواه الجماعة إلا البخاري، [أخرجه مسلم رقم 1154].
فدل طلبه للأكل على أنه لم يكن نوى الصيام قبل ذلك، ودل قوله "فإني إذا صائم" على ابتداء النية من النهار، فدل على صحة نية صوم النفل من النهار فيكون ذلك مخصصا لحديث: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" وما ورد بمعناه بأن ذلك خاص بالفرض دون النفل، وذلك بشرط أن لا يفعل قبل النية ما يفطره اقتصارا على مقتضى الدليل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إني إذاً صائم"، والتطوع أوسع من الفرض، كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض [بخلاف النفل فإنه يصح على الراحلة ومن الماشي] ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده طرق التطوع، فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات وهذا أوسط الأقوال" انتهى.
وصحة نية التطوع من النهار مروية عن جماعة من الصحابة منهم معاذ وابن مسعود وحذيفة، وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وغيرهم.. والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.