يَعْمِدُ بعضُ المصلّين إلى اصطحابِ بَنِيهم وبناتِهم إلى المسجدِ، وغالبًا ما يكون سنُّهم ما بين سنتين إلى ستِّ سنواتٍ، وإذا أُقيمتِ الصّلاةُ يصطفّ الابنُ أو البنتُ مع والدَيْهما في صفِّ الرّجالِ، فهل هذا جائزٌ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالصّبيُّ إذا بلغ سبعَ سنينَ -وهو بدايةُ سنِّ التّمييزِ على الأصحِّ- فإنّه تصحّ مصافّتُه مع الرّجالِ، لأنّه مأمورٌ بالصّلاةِ في قولِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ(١)»(٢)، وقد صلّى ابنُ عبّاسٍ رضي اللهُ عنهما مع النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم، فأخذ برأسِه وجعله عن يمينِه(٣ )، وإذا كانتْ إمامةُ الصّبيِّ تصحّ إذا كان أحْفَظَ مِن غيرِه لكتابِ اللهِ تعالى -كما ثبت في حديثِ عمرِو بنِ سَلِمَةَ رضي اللهُ عنه، فقد أمَّ النّاسَ وهو ابنُ سبعِ سنينَ(٤)-؛ فإنّ مصافَّتَه تصحّ مِنْ بابٍ أَوْلَى.
فإنْ كان دون سنِّ التّمييزِ فهو غيرُ مأمورٍ بالصّلاةِ، ولا يقطع الصّفَّ في الصّلاةِ؛ لمكانِ حديثِ أنسٍ رضي اللهُ عنه قال: «فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَفَفْتُ أَنَا وَاليَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ»(٥ )، والظّاهرُ مِنْ لفظِ «اليتيمِ» في الحديثِ أنّه الصّغيرُ، و«اليُتْمُ في النّاسِ: فَقْدُ الصّبيِّ أباه قبل البلوغِ»(٦ )، مِنْ غيرِ تفريقٍ بين مميِّزٍ وغيرِ مميِّزٍ، ولا يُصار إلى خلافِه إلاّ بدليلٍ، قال الشّوكانيُّ -رحمه الله-: «وفيه أنّ الصّبيَّ يَسُدّ الجَناحَ»(٧)، وأمّا إلحاقُ الصّبيِّ غيرِ المميِّزِ بالسّاريةِ، أو بِمَنْ لا تصحّ صلاتُه كالكافرِ، أو المرأةِ مع الرّجالِ؛ فهو قياسٌ ظاهرُ الفرقِ بين العاقلِ والجمادِ، والمسلمِ والكافرِ، والذّكرِ والأنثى.
وأمّا الصّبيّةُ ففي كلا الحالتين: مميِّزةً كانتْ أو غيرَ مميِّزةٍ فلا تصحّ مصافّتُها مع الرّجالِ لاختلافِ الجنسِ، وهي تقطع الصّفَّ؛ لأنّ وجودَها وعدمَها سواءٌ.
فإنْ كان وليُّ الصّبيّةِ مضطَرًّا إلى استصحابِها لصلاةِ الجماعةِ فلها أن تُصَلِّيَ معه في أحدِ طرفَيِ الصّفِّ يمينًا أو شمالاً، فيجعلُها كآخِرِ فردٍ في السّلسلةِ لئلاّ تقطعَ الصّفَّ، وقد صلّى النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم وهو حاملٌ أُمامةَ بنتَ زينبَ رضي الله عنهما على عاتقِه(٨ ) حتّى يعلمَ النّاسُ أنّ مِثْلَ هذا العملِ سائغٌ في الصّلاةِ عند الاضطرارِ والحاجةِ.
وعلى كلٍّ، فإنّي لا أعلم دليلاً يقضي ببطلانِ الصّلاةِ في الحالاتِ السّابقةِ بسببِ الإخلالِ بتسويةِ الصّفوفِ أو عدمِ ترتيبِها.
هذا، وجديرٌ بالتّنبيهِ أنّ الصّبيَّ غيرَ المميِّزِ إذا ظهر منه عبثٌ وطيشٌ أو تصرُّفٌ مؤذٍ في المسجدِ؛ فالأَوْلَى إبقاؤُه في بيتِه مع أهلِه وذويه لأنّه غيرُ مأمورٍ بالصّلاةِ أوّلاً، ويَتأذّى بعبثِه وتشويشِه المصلّون ثانيًا، والأصلُ رفعُ الضّررِ وإزالةُ الأذى؛ لعمومِ قولِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ»(٩) ما لم يُضْطَرَّ وليُّه إلى استصحابِه معه؛ فإنّه يُسْتَدَلُّ له بحديثِ حملِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم لأُمامةَ بنتِ زينبَ(١٠ ).
أمّا إذا خلَتْ تصرُّفاتُ الصّبيِّ مِنْ عبثٍ وتشويشٍ؛ فإنّه يجوز إدخالُه المسجدَ، لأنّ النّبيَّ صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم رأى الحسنَ بنَ عليٍّ وهو على المنبرِ فقال: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»(١١ )، ولِما رواه النّسائيُّ وأحمدُ مِنْ طريقِ عبدِ اللهِ بْنِ شدّادٍ عن أبيه شدّادِ بْنِ الهادِ قال: خرج علينا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم في إحدى صلاتَيِ العَشِيِّ وهو حاملٌ حسنًا أو حسينًا، فتقدّم النّبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلّم فوضعه ثمّ كبّر للصّلاةِ، فصلّى فسجد بين ظهرَيْ صلاتِه سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسي فإذا الصّبيُّ على ظهرِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم وهو ساجدٌ، فرجعتُ إلى سجودي، فلما قضى رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم الصّلاةَ قال النّاسُ: «يا رسولَ اللهِ، إنّك سجدْتَ بين ظهرَيْ صلاتِك سجدةً أطَلْتَها حتّى ظنَنَّا أنّه قد حدث أمرٌ أو أنّه يوحى إليك»، قال: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ»(١٢ )، وقد استُدِلَّ بهما على جوازِ إدخالِ الصّبيانِ المساجدَ.
وأمّا حديثُ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ»، فلا ينتهض للاحتجاجِ به لشدّةِ ضعفِه كما بيّنه الألبانيُّ -رحمه الله-(١٣ ).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الموافق ﻟ: 17 أكـتـوبـر 2022م
١- انظر مسألة الأمر في فتوى رقم: (1049) الموسومة بـ: «في صفة الأمر في قوله صلى الله عليه وآله وسلم «مروا أولادكم بالصلاة ..»».
٣- أخرجه البخاريّ في «العلم» (1/ 37) باب السّمر في العلم، ومسلم في «صلاة المسافرين وقصرها» (1/ 354) رقم (763)، من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما.
٤- أخرجه البخاريّ في «المغازي» (2/ 409) باب من شهد الفتح.
٥- أخرجه البخاريّ في «الصّلاة» (1/ 101) باب الصّلاة على الحصير، ومسلم في «المساجد ومواضع الصّلاة» (1/ 296) رقم (658).
٦- «النّهاية» لابن الأثير (5/ 291).
٧- «نيل الأوطار» للشّوكانيّ (4/ 90).
٨- أخرجه البخاريّ في «الصّلاة» (1/ 130) باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصّلاة، ومسلم في «المساجد ومواضع الصّلاة» (1/ 246) رقم (543) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
٩- أخرجه ابن ماجه في «الأحكام» باب من بنى في حقّه ما يضرّ بجاره (2431)، وأحمد (1/ 313) من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما. قال النّوويّ في الحديث رقم (32) من «الأربعين النّوويّة»: «وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض»، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (378): «وهو كما قال». وصحّحه الألبانيّ في «الإرواء» (3/ 408).
١٠- سبق تخريجه.
١١- أخرجه البخاريّ في «الصّلح» (2/ 7) باب قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلم للحسن بن عليّ رضي الله عنهما: «إِنَّ ابْنِي هَذَا..»، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
١٢- أخرجه أحمد في «مسنده» (6/ 476)، والنّسائيّ في «صفة الصّلاة» (1141) باب هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة، من حديث شدّاد بن الهاد رضي الله عنه، وصحّحه الألبانيّ في «صفة الصّلاة» (148).
١٣- انظر: «إرواء الغليل» (7/361).
من موقع الشيخ الفاضل ابو عبد المعز محمد علي فركوس
جزاكم الله خيرا على الافادة
نترقب المزيد
بالتوفيق