النوافل وبيان فضلها
خطبة للشيخ عبد العزيز ال الشيخ حفظه الله
الخطبة الاولى
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ، وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ مِن رحمةِ اللهِ بعبادِهِ المؤمنينَ أنْ شرعَ لهم نوافلَ من العباداتِ والطاعاتِ يكمُلُ بها نقصُ فرائضِهم، ولتكونَ سببًا في رفعِ الدرجاتِ، وحَطِّ الخطايا والأوزارِ، إلى غيرِ ذلك من الفوائدِ العظيمةِ، واللهُ جَلَّ وعلا إذ فرضَ الفرائضَ بعدَ تحقيقَ التوحيدَ، فرضَ الصلاةَ والزكاةَ والصومَ والحجَّ، وشرعَ الذِّكرِ، شرعَ نوافلَ من الصلواتِ، ونوافلَ من الصدقةِ والصومِ والحجِّ والذِّكرِ؛ ليكون ذلك سببًا لرفعِ درجاتِنا، وعُلُوِّ مكانتِنا عندَ ربِّنا.
أيُّها المسلمُ، الفرائضُ افتُرِضت علينا خمسَ صلواتٍ في اليومِ والليلةِ، لا يجوزُ أن نُطالِبَ أحدًا بسواها؛ فإنَّ الصلواتِ الخمسَ بإجماعِ الأمَُّةِ هي المفروضةُ علينا، ولو اِدَّعى مُدَّعٍ فرضًا سادسًا، لكان هذا ضلالًا وكفرًا، وافترضَ اللهُ الزكاةَ في كُلِّ حَوْلٍ، وافترضَ اللهُ الصيامَ شهرَ رمضانَ، وافترضَ اللهُ الحجَّ إلى بيتِه الحرامِ مرَّةً في العُمُر، كُلُّ هذه الفرائضُ فُرِضت علينا؛ لاستطاعتِنا أداءَها، ولأنها سببٌ لإصلاحِ قلوبِنا وأعمالِنا، ولأنَّ هذه النوافلَ –أيضًا- تُسَبِّبُ مَحَبَّةَ اللهِ لنا، ورحمتَه بنا، وإحسانَه إلينا، والمسلمُ في هذه الحياة يَتَسابَقُ إلى فعل الخير (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148]، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، والعبدُ في هذه الدنيا يعلمُ أنه في أمَسِّ الحاجةِ إلى حسنةٍ يَرجَحُ بها ميزانُه يومَ القيامةِ، فهو في أمَسِّ الحاجةِ إلى هذه الأعمالِ الصالحةِ؛ لتكونَ زادًا له يومَ قدومِه على اللهِ (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة:197].
أيُّها المسلمُ، لِنوافلِ الطاعاتِ فضائلُ كثيرةٌ، أوَّلًا أنها سببٌ لمَحَبَّةِ اللهِ للعبدِ، يقول صلى الله عليه وسلم عن ربِّهِ عزَّ وجَلَّ أنه قال: (وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه، ولا يَزالُ عبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أُحِبَّه)، فإذا كانت نوافِلُ الطاعاتِ سبب سببًا لمَحَبَّةِ اللهِ لك، فما أعظَمَها مِن نعمةٍ أن يُحِبَّك اللهُ جَلَّ وعلا، وثِمارُ تلك المَحَبَّةِ أن يُعلِيَ مَنزِلتِك ويُدخِلُك جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ، ومن فوائدِ النوافلِ –أيضًا- بعدَ الفرائضِ حصولُ مَعِيَّةِ اللهِ لك في كُلِّ أحوالِك، في الحديثِ القُدْسِيِّ يقولُ اللهُ: (فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يَمْشِي بها)، فيُوَفِّقَك اللهُ في حَواسِّك كلُّها أن تُسَخِرَّها فيما يُقَرِّبُك إليه، ويُبعدُك عن مُخالفةِ أمرِهِ، وارتكابِ نهيِه.
ومِن فوائدِ النوافلِ إجابةُ الدعاءِ، يقولُ اللهُ في الحديث القدسي: (ولئن سَأَلني لأُعْطِيَنَّه ولئن اِستعاذَني لأُعِيذَنَّه)، فإذا أدَّيْتَ النوافلَ بعدَ الفرائضِ؛ فإنَّ ذلك سببٌ لإجابةِ دُعائِك؛ فإنْ سألتَ اللهَ أعطاك، وإنِ اِلتجأتَ إليهِ فّرَّجَ هَمَّكَ، وغَمَّكَ، وكَفاكَ كُلَّ ما أهَمَّكَ، وعَجَزتَ عن إزالتِه.
ومن فوائدِ النوافلِ –أيضًا- بعدَ الفرائضِ، أنَّ هذه النوافلَ يُجبَرُ بها النقصُ الحاصلُ علينا في فرائضنا، فمَن منَّا من ييقن أنه أدَّى الفرضَ كاملًا؟ لا بُدَّ مِن تقصيرٍ، لا بُدَّ من غفلةٍ، لا بُدَّ من سهوٍ، لا بُدَّ من حصولِ النَّقصِ، فهذه النوافلُ يَجعلُها اللهُ سببًا يَجبُرُ به نقصَ فرائضِنا، ويُعلي به درجاتِنا، يقول صلى اللهُ عليه وسلم: "إن أوَّلَ ما يُحاسَبَُ عنه العبدُ يومَ القيامةِ من أعماله الصلاةُ فإنْ صَلَحت؛ فقد أفلحَ ونجحَ، وإن فسدَت؛ فقد خابَ وخسِرَ، وإن انتقصَ منها شيء، قال اللهُ "انظُروا هل لعبدي من تطوعٍ؛ فيُكَمَّلُ به النقصُ، ثم تأتي سائرُ الأعمالِ كذلك".
إذًا فنوافلُ صلاتِنا يُجبَرُ بها نقصُنا الحاصلُ علينا في الفريضةِ، ونوافلُ الصدقةِ يُكَمَّلُ بها ما حصلَ علينا من تقصيرٍ في زكاتِنا، وصيامُ النافلةِ يُجبَرُ به ما قد حصلَ علينا في صيامِنا المفروضِ، وهكذا حَجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ، النافلة ُمنه تَجبُرُ ما قد حصلَ علينا من نقصٍ في أدائِنا للمفروضِ.
ومن فوائدِ النوافلِ، أنَّ المُحافِظَ عليها، يَنالُ الخيرَ العظيمَ، بأن يكونَ رفيقًا لرسول الله صلى اللهُ عليه وسلم في دارِ كرامةِ اللهِ، قَرَّبَ ربيعةُ الأسلَمِيُّ للنبِيِّ وَضوءَه؛ فقال: "سَلْنِي يا ربيعةُ"، قال: أسألُك مُرافَقَتَك في الجَنَّةِ، قال: "أوْ غيرَ ذاكَ"، قال: هُو ذاك، قال: "أَعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السُّجودِ"، وليس هذا لربيعة وحده، بل هو لجميعِ المسلمين.
ومن فوائدِ النوافلِ بعدَ الفرائضِ أنها سببٌ لرفعِ الدرجاتِ، وحَطِّ الخطيئةِ، في حديث ثَوبانَ أنه صلى اللهُ عليه وسلم قال: "إنَّك لن تسجُدَ للهِ سجدةً إلا رفعَكَ اللهُ بها درجةً، وحَطَّ عنك بها خطيئةً"، ومن فوائدِ النوافلِ أنها سببٌ لزيادةِ الإيمانِ وقُوَّتِهِ؛ فإنَّ الإيمانَ يزيدُ بالأعمالِ الصَّالحةِ، كما يَنقُصُ بالأعمالِ السيِّئةِ، ومن فوائدِ هذه النوافلِ أنها تُحَقِّقُ العبوديةَ للهِ، فالمُحافِظُ عليها يُحَقِّقٌ عبوديتَه لربِّهِ وخُضوعِه له، ومن فوائدها –أيضًا- أنها ميدانٌ فسيحٌ للتنافسِ في صالحِ الأعمالِ (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26]، ومن فوائدِها قُوَّةُ صِلتِك بربِّك وقُربِك من ربِّك، فأنت بأمَسِّ الحاجةِ إلى كُلِّ وسيلةٍ تُدنيك من ربِّك، وتُقَرِبُّك إليه؛ لتنالَ الفضلَ والعطاءَ الجزيلَ.
أيُّها المسلمُ، الصلواتُ الخمسُ هي المطلوبةُ منَّا والمفروضةُ علينا، ولكنَّنا نَغْفُلُ في صلاتِنا، ونَلهو في صلاتِنا، ويَتَسَلَّطُ العَدُوُّ اللَّدودُ علينا في صلاتنا، فيَشغَلُنا هُنا وهُناك، حتى رُبَّما صَلَّيْنا، وما شعُرْنا ما قرأْنا، ولا تسبيحُ ركوعٍ ولا سجودٍ، ولو سهى الإمامُ ما شعُرنا، كُلُّ ذلك من الغفلةِ والإعراضِ، ولهذا في الحديث: "إنَّ العبدَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ ما يُكتبُ له إلا نصفُها، إلا ثُلُثُها، حتى قال إلا عُشْرُها"، قال ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما: "ليسَ لك من صلاتِك إلا ما عقِلتَ"، إذا فالنوافلُ تَجبُرُ نقصَ صلاتِنا، سألَ أبو ذَرٍّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم عن الصلاةِ فقال: "الصلاةُ خيرُ موضوعٍ، فمن شاءَ فلْيستقلَّ، ومن شاء فَلْيستكثرْ".
هذه النوافلُ يا أخِي هي خيرٌ لك، ومنفعةٌ لك، هي سنَّةٌ مُستحبََّةٌ، لكنْ لا يَنبَغِي الإخلالُ بها، لمَّا ذُكِرَ لعائشة أنَّ قومًا يقولون: لا نُؤَدِّي إلا ما افترضَهُ اللهُ علينا، قالت: "لعمرُ اللهِ لن يسألَكم اللهُ إلا عمَّا افترضَ عليكم، ولكنَّكم قومٌ تُذنِبون، تُسيئون، وما أنتم إلا من نبيِّكم وما نبيُّكم إلا منكم، ولقد كان نبيُّكم يُحافِظُ على قيامِ الليل".
أيُّها المسلمُ، هذه مستحباتٌ، فلا تزهدْ فيها، بل اِجعلْ فِعْلَكَ لها تصديقٌ لمشروعيَّتِها، نحنُ لا نغلو فيها، ولا نُقَدِّمُها على الفرائضِ ولا نذل نَذُمُّ تاركَها، لكنْ نُرَغِّبُ فيها، ونَحُثُّ عليها، رغبةً في حصولِ المسلمِ على الخيرِ، للصَّلاةِ رواتِبُ مشروعةٌ قبلَها وبعدَها، فيَرْوِي عبدُ الله بنُ عمرَ بنِ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ عنهما قال: "حفِظتُ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم رَكعتين قبلَ الظُّهر، ورَكعتينِ بعدَها، وركعتين بعدَ المغرِبِ، وركعتين بعدَ العِشاءِ، ورَكعتينِ قبلَ الفجرِ -وكانت ساعةً لا أدخلُ على النبيِّ فيها- فحدثتني حفصةُ أنه صلى اللهُ عليه وسلم إذا قضى المُؤَذِّنُ أذانَه صلى رَكعتينِ قبلَ أن يُصَلِّيَ الفجرَ"، فهذه رواتبُ مستحبةٌ لا ينبغي للمُسلمِ -وهو مقيم غير مسافر- أن يتهاونَ بها، بلْ يُحافِظُ عليها، ويَقضِيها إذا فاتتهُ، فإنه صلى اللهُ عليه وسلم لمَّا شُغِلَ عن الرَّكعتين بعدَ الظهرِ قضاهما بعدَ العصرِ اهتمامًا بهذه الرواتب، وعنايةً بها، ورغبةً فيها؛ لأنَّ فيها جبرًا لنقصِ الفريضةِ، وشُرِعَ نوافلُ أخرى، نافلةُ قبلَ المغربِ، في الحديثِ: "صَلُّوا قبلَ المغربِ، صَلُّوا قبلَ المغربِ، صَلُّوا قبلَ المغربِ" ثم قال في الثالثة "لِمنْ شاءِ"كراهيةَ أن يَتَّخِذَها الناسُ سنةً، ورغَّبَ في الصلاة بينَ الآذانِ والإقامةِ، فقال: "بين كل أذانين صلاة"، ورغَّبَ في أربعٍ قبلَ الظهر وأربعٍ بعدَها فقال: "من حافظَ على أربعٍ قبلَ الظهرِ، وأربعٍ بعدَها بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ"، وحَثَّ على الركعتين تحيةَ المسجدِ فقال: "إذا دخلَ أحدُكم المسجدَ؛ فلا يجلسْ حتى يُصَلِّيَ رَكعتين"، وسنَّ ركعتينِ بعدَ الوُضوءِ؛ لأنَّه قال لبلالٍ: "أراك أمامي في الجنة فما أرجى عملٍ عمِلتَه؟"، قال: "ما هو إلا أني إذا أحدثت توضأت، وإذا توضأت رأيتُ لله حقًّا أن أُصَلِّيَ رَكعتينِ"؛ فقال: "هو ذاك".
أيُّها المسلم، هذه النوافل ينبغي المحافظة عليها وإلزام النفس بها فمن رَوَّضَ نفسَه عليها؛ فإنها خيرٌ له، يُلازِمُ عليها إلى أن يَلقَى اللهَ، وسَيَرى ثوابَها مُدَّخَرًا له، أَحْوَجَ ما يكونُ إليه، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران:]، وحَثَّ على الوِترِ، ورَغَّبَ فيه؛ فقال صلى اللهُ عليه وسلم: "إنَّ اللهَ أَمَدَّكُم بصلاةٍ، هي خيرٌ لكم من حُمْرِ النَّعَم الوترُ ما بين صلاةِ العشاءِ وصلاةِ الفجرِ"، وقال: "اِجْعَلوا آخِرَ صلاتِكم بالليلِ وترًا"، وقال: "أَوْتِروا يا أهلَ القرآنِ"، فالوِترُ سنَّةٌ، وكان صلى اللهُ عليه وسلم يُحافِظُ على الوِترِ وركعتَيِ الفجرِ حَضَرًا وسفرًا، فقالت عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: "لم يكنْ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم على شيءٍ أشدَّ تَعاهُدًا منه على رَكعتيِ الفجرِ، وكان يقولُ: "ركعتا الفجرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها" ، وحَثَّ على قيامِ الليلِ، ورَغَّبَ فيه، قال اللهُ جَلَّ وعلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [السجدة:16]، وقال: (وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) [الإسراء:79]، وأخبرنا نبيُّنا صلى اللهُ عليه وسلم أن أسمعَ الدُّعاءِ جوفُ الليلِ الآخرِ، و"أنَّ اللهَ يَنزِلُ إلى سمائه الدنيا حين يبقى ثلثُ الليل الآخرُ؛ فينادِي هل من داعٍ؛ فيُستجابَ له؟ هل من مُستغفِرٍ فيُغفرَ له؟ هل من سائلٍ فيُعْطى سُؤْلَه؟" فهذه أعمالٌ صالحةٌ، وعباداتٌ مُهِمَّةٌ، لا يَنبَغي لمُسلِمٍ أن يَتَكاسَلَ عنها؛ فإنَّهُ بأمَسِّ الحاجةِ إليها.
الزكاةُ افترضَ اللهُ الزَّكاةَ في الأموالِ الزَّكويَّةِ بالعامِ مَرَةً، أمَّا الخارِجُ من الأرضِ، فعلى حَسَبِ خُروجِه، لكنْ هُناكَ من الصَّدَقاتِ ما يَجبُرُ نقصَ الفرائضِ، قال اللهُ جَلَّ وعلا: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]، وجاء عنه صلى اللهُ عليه وسلم: "أنَّ مَن تصدَّقَ بصدقةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، -ولا يقبلُ اللهُ إلا طَيِّبًا- تَلَقَّاهُ اللهُ بيمينِه؛ فَيُرَبِّيها كما يُرَبِّي أحدٌ فُلُوَّهُ حتى تكونَ مِثلَ الجبلِ العظيمِ" وفي السبعةِ الذينِ يُظِّلُهم اللهُ تحتَ ظِلِّ عرشهِ رجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفِقُ يمينُه".
والصومُ المفروضُ برمضان علينا بإجماعِ المسلمين، لكنْ شُرِعَ لنا من نوافِلِ الصِّيامِ ما نَجبُرُ به نقصَ فريضَتِنا، وترتفِعُ بها درجاتُنا عندَ ربِّنا، فهذا الصومُ الذي يقولُ فيه صلى اللهُ عليه وسلم: "من صامَ يومًا في سبيلِ اللهِ باعَدَ اللهُ وجهَهُ عن النارِ سبعينَ خرِيفًا"، وأنَّ الصيامَ من أفضلِ الأعمال أضافَهُ اللهُ إليه "كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ له، الحسنةُ بعشرةِ أمثالِها قال الله: "إلا الصومُ؛ فإنَّه لي وأنا أجْزِي به".
أيُّها المسلمُ، فشَرَعَ لنا صيامَ ستةِ أيَّامٍ من شَوَّالَ، وجَعَلَ صيامَها بمنزلةِ صيامِ الدَّهرِ مع رمضانَ، وشرَعَ لنا صيام ثلاثةِ أيَّامٍ من كُلِّ شهرٍ، وشَرَعَ لنا صيامَ يومِ عرفةَ لغير الحُجاج، وشَرَعَ لنا صيامَ اليومِ العاشِرِ مِن مُحَرَّمٍ، وصيامَ الاثنينِ والخميسِ، كُلُّها عباداتٌ تُقَوِّي إيمانَك وصِلَتَك بربِّكَ، وشَرَعَ لنا نوافِلَ الحَجِّ، وقال: "تابِعوا بينَ الحَجِّ والعمرَةِ؛ فإنهما يَنفِيانِ الفَقْرَ والذنوبُ كما يَنفِي الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ والفِضَّةِ"، وقال: "العمرةُ للعمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحَجُّ المَبْرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجَّّنةَ"، وقال: "عمرةٌ في رمضانَ تَعدِلُ حَجَّةً" أو قال: "تَعدِلُ حَجَّةً مَعي"، كُلُّ هذه النوافلِ في هذه العباداتِ تُزَوِّدُ إيمانَك، وتُقَوِّي يقينَك، وتجعلُك دائمًا على صِلَةٍ بربِّكَ؛ فَيَقِلَّ الشرُّ، ويَتضاعَفُ الخيرُ بتوفيقٍ مِن اللهِ، أسألُ اللهَ لي ولكم إخلاصًا في القولِ والعملِ، وأن يُوَفِّقَنا لصالحِ العملِ، وأن يُعِينَنا على ذلك، اللَّهُمَّ أعِنَّا على شكرِك، وذِكرِك، وحُسْنِ عبادتِك، أقولُ قولي هذا، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ، لي ولكم، ولسائر المُسلِمين، مِن كُلِّ ذنبٍ؛ فاستغفِروه، وتوبوا إليه؛ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، ذِكرُ اللهِ عبادةٌ، ذِكرُ اللهِ طاعةٌ، ذِكرُ اللهِ يُحْيِي القلوبَ، ذِكرُ اللهِ يُبعِدُ الشيطانَ ووساوِسَهُ، ذِكرُ اللهِ يُقَوِّي الإيمانَ في القلب (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب:41-42]، ويقول: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152].
أيُّها المسلمُ، ذِكرُك لربِّك حياةٌ لقلبِك، ذِكرُك لربِّك سعادةٌ لك في دُنياكَ وآخِرَتِك، ذِكرُك لربِّك رفعٌ لِدَرَجاتِك، في الحديث يقولُ صلى اللهُ عليه وسلم: "كلمتانِ خفيفتانِ على اللسانِ، ثقيلتانِ في الميزانِ، حبيبتانِ إلى الرَّحمنِ: سُبحانَ اللهِ وبحمده، سُبحانَ اللهِ العظيمِ"، وجاءَ في الحديثِ –أيضا-: "مَن قالَ في يومه سُبحانَ اللهِ وبحمده مِئةَ مَرَّةٍ حُطَّت خَطاياهُ ولو كانت مثلَ زَبَدِ البحر"، وجاء عنه صلى اللهُ عليه وسلم: "مَن قالَ في يومٍ مئةَ مَرَّةٍ: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، لَه المُلكُ، وله الحمدُ، وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، كانَ كَعَدْلِ عشرِ رقابٍ، وحُطَّ عنه مئةُ سيئةٍ، وكُتِبَ لهُ مِئةُ درجةٍ، وكان في يومه في حرزٍ مِن الشيطانِ، لن يكون أحدٌ مثلَه إلا من أتى بمثلِ ما أتاه وأكثر".
فيا أيُّها المسلم، هذا ذِكرُ اللهِ، اِجعَلْهُ على لسانِك دائمًا، اذكُرِ اللهَ في كُلِّ أحوالِك، اُذكُرِ اللهَ يَذْكُرْك؛ فمَن ذَكَرَ اللهَ في نفسِهِ، ذَكَرَه اللهُ في نفسه، ومَن ذَكَرَ اللهَ في ملأ، ذَكَرَهُ اللهُ في مَلأ خيرٍ من مِلئِه، جاءَ فُقراءِ المُهاجِرين إلى النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم؛ فقالوا: "يا رسولَ اللهِ ذهبَ إخوانُنا أهلُ الدُّثورِ بالدرجاتِ العُلَى والنَّعيمِ المُقيمِ، قال الرسولُ: "وما ذاك"، قالوا: "يُصَلُّون كما نُصَلِّي، ويَصومون كما نَصومُ، ولَهم فَضْلُ أموالِهم يَتَصَدَّقون بها، ولا نَجِدُها قال: "ألا أَدُلُّكم على شيءٍ، إذا فعلتُموه أدرَكتُم من سَبَقَكُم، وسَبَقْتُم مَن بعدَكم؟ تُسَبِّحون وتَحْمَدون، وتُكَبِّرون دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وتقولون تمامَ المِئةِ :لا إلهَ إلا اللهُ، وحدَه لا شريك له، له المُلكُ، وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شيءٍ قديرٌ" فسَمِعَ أهلُ الدُّثورِ بذلك؛ فعَمِلوا، فجاءَ الفُقراءُ وقالوا: "يا رسولَ اللهِ، سَمِعَ إخوانُنا أهلُ الدُّثور بما عَمِلْنا؛ فعَمِلوا مثلَه، قال: "ذلِك فَضْلُ اللهِ، يُؤتيه مَن يشاءُ"، أي أنّهم جَمَعوا بينَ خيريِ الدُّنيا والآخِرَةِ، وفَضْلُ اللهِ واسعٌ؛ فَكُنْ ذاكِرًا لِرَبِّك في كُلِّ أَحْوالِك، لا سِيَما إذا وَسْوَسَ الشيطانُ عليكَ بِشَرٍّ، بِحِقْدٍ، أو بِنَظَراتٍ سيِّئَةٍ، أو بِأفكارٍ خَبيثةٍ، أو آراءٍ ضالةٍ؛ فَحَرِّزْ نفسَكَ بِذِكرِ اللهِ، (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف:200]، فإذا هَمَمْتَ بسوءٍ لأخيكَ المُسلِمِ، وهمَمْتَ بِشَرٍّ، وأَذًى فاذْكُرِ اللهَ يبتعدِ الشيطانُ عنك، إذا هممت بمعصيةٍ، ونظراتٍ سيِّئةٍ ونظراتٍ إلى مواقعَ مَشبوهةٍ، وأفلامٍ ماجِنةٍ فاذْكُرِ اللهَ الذي يَطَّلِعُ عليك، لعلَّ اللهَ أن يَحولَ بينَك وبينَ هذه الأمورِ المُحَرَّمَةِ، فَذِكْرُ اللهِ حِصْنٌ للعبدِ، يُحَصِّنُهُ بتوفيقِ اللهِ مِن الشُّرورِ والفسادِ.
اللهُمَّ اجْعلنا لك مِن الذَّاكرِين، اللهم اجعلنا لك من الشاكِرين، اللهم اجعلنا لك من المُطِيعين، اللهم استُرْ عوراتِنا في الدنيا والآخرةِ؛ إنك على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، اللهم إنَّا نَسألُكَ العَفْوَ والعافِيةَ في دينِنا ودُنيانا، وأهلينا وأموالِنا، اللهم استُرْ عوراتِنا، وآمِن روعاتِنا، واحفَظْنا من بينِ أيدينا، ومن خَلْفِنا، وعن يمينِنا وعن شمائِلِنا، نعوذ بعظمتك أن نُغْتالَ من تحتنا؛ إنك على كُلِّ شيءٍ قديرٌ.
واعلموارحمكم اللهُ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ؛ ومن شذَّ شذَّ في النار، وصَلُّوا رحمكم اللهُ على عبدِ اللهِ ورسوله محمدٍ، كما أمركم بذلك ربُّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خلفائِه الراشدين الأئمةِ المهديين، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانِكَ، يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُر عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتََََّنا ووُلاةَ أمرِنا، اللهمَّ وفِّقْهُم لما فيه صلاحُ الإسلامِ والمسلمين، اللَّهمّ وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ، عبدَ الله بنَ عبدِ العزيزِ لِكُلِّ خير، اللَّهمَّ أَمِدَّهُ بعونِك، وتَوفيقِك، وتَأييدِك، وكُنْ له عونًا ونصيرًا في كلِّ ما أَهَمَّه، اللهمَّ انصُرْ به دينَكَ، وأعْلِ به كَلِمَتَك، واجمعْ به كَلمةَ الأمةِّ على الخيرِ والتقوى، اللّهُمَّ شُدَّ عَضُدَهُ بوليِّ عهدِه سلطانَ بنِِ عبدِ العزيزِ، ووفقْهُ لصالحِ الأقوالِ والأعمالِ، وبارك له في عُمُرِهِ وعَمَلِه، ووفِّقْ النائبَ الثانيَ، واجعلهم جميعًا دعاةَ خيرٍ، وأئمةَ هُدًى؛ إنَّك على كُلُّ شيءٍ قديرٌ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الأحزاب:٥٦] (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكروه على عمومِ نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنعون.