أما بعد :
والقدرية واحدهم قدري، فالنبي صلى الله عليه وسلم نسب أشخاصاً من أمته سيأتون من بعده إلى القدر فصنفهم بالبدعة التي وقعوا فيها وهي إنكار القدر..
مثالاً آخر لتلك الفرق جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج واحدهم خارجي ،وقد أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر وهو عليه الصلاة والسلام لم يسمهم بالخوارج ولكن الصحابة ورد عنهم تسميتهم بذلك وتنزيلاً لأحاديث التي جاءت في الخوارج على الخوارج الذين وجدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث كثيرة منها ما جاء في المسند والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلمقال: "سيكون في أمتي اختلافاً وفرقة ، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرأوون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون حتى يرتد السهم على فوقه، هم شرالخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء،من قاتلهم كان أولى بالله منهم" قالوا: يا رسول الله ما سيماهم، قال: "التحليق".حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد واللالكائي وغيرهم وهو في السنن أيضاً.
وقدأخرج مسلم وغيره عن بسر بن عمرو قال سألت سهل بن حنيف هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج، فقال: سمعته وأشار بيده نحو المشرق قوم يقرأوون القرآن بألسنتهم لا يعدو تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والحديث كما أنه في مسلم أيضاً هو في البخاري وفي مسند الإمام أحمد.
وامتداداً لهذا المأثور جاءت أقوال السلف وأفعالهم في هذا الباب واضحة، فهم يثبتون هذه الفرق وينسبونها إلى بدعتها التي خرجت بها عن موجب الكتاب والسنة، ومن عُرف بها من آحاد الناس نسبوه إليها وكل هذا منقول عنهم ومثبت في دواوين السنة لا يخفى على أهل العلم ولو كتب المرء في ذلك مجلداً كبيراً لما أحاط ببعض ذلك، وكتب السير والتراجم والمؤلفات الموصوفة بالسنة فيها شىءٌ كثيرٌ من هذا الباب، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما جاء في صحيح مسلم عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجُهني وفيه أنه لقي ابن عمر فقال له إنه قد ظهر أناس من قبلنا يقرأوون القرآن ويتعلمون العلم ، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، فقال ابن عمر: (إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم براء مني)، وأولئك إشارة إلى الأشخاص الذين دانوا بالقدر أي دانوا بإنكار القدر فنسبوا إلى القدرية، وقد جاء عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه تأول قول الله سبحانه وتعالى: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً" تأولها في الخوارج، وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد روي فيذلك أحاديث مرفوعة الى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يثبت منها شيء، وقد جاء أيضاً عن أبي أمامة رضي الله عنه في تأويل قول الله سبحانه وتعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " أنها في الخوارج.
وأنت إذا أخذت جانباً آخر من هذا الباب وجدت كتب الجرح والتعديل مليئة بنسبة من دون أولئك إليهم ما داموا مشتركين معهم في نحلتهم ووجهتم وبصرف النظر عن ثبوت ذلك في حق من نسب إليه هذا الأمر أو عدم ثبوت ذلك
المقصد أن أهل السنة فعلوا ذلك فإن ثبت فقد حصل المقصود وإن لم يثبت بُرء مننسب إليه ذلك.
فظهر بهذا الموجز واستبان مشروعية نسبة الناس إلى عقائدهم، فمن كان من أهل السنة فهو سني ومن كان من أهل البدع والأهواء فهو منهم . أشعرياً كان أو معتزلياً أو مرجئياً أو خارجياً أو رافضياً وهكذا .
إذا تبين هذا، فإن هذا الباب باب قد طرقه أهل العلم عملياً ونظرياً في قديم الزمان وفي حديثه، ولعلنا قد قدمنا من العملي ما يتضح به المقصود .
أما النظري فأهل الاختصاص ، أهل الجرح والتعديل قد اعتنوا به وأوسعوه بحثاً فبينوا حكمه فيالشرع وذكروا قواعده ، فتصنيف الناس ونسبتهم إلى عقائدهم ونحلهم وصفاتهم من حيث الحكم ومن حيث القواعد، ليس علماً مخترعا وليس علماً جديداً بل هو علم الجرح والتعديل الذي لا ينقطع من هذه الأمة ما بقي الليل والنهار .
فمن رام أن يطفئ نور هذا الفن ، لخاطر حزبه أو خوفاً على محبوبيه المجروحين فقد ضل وأضل وشقي وأشقى !!!.
فتصنيف الناس بحقٍ وبصيرة حراسة لدين الله سبحانه وتعالى، وهو جند من جنود الله سبحانه وتعالى ينفي عن دين الله جل وعلا تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وزيغ المبتدعين ومكر الخوارج المارقين وسائر الفرق المنشقة عن صفوف أمة الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم .
فالتصنيف رقابة تترصد ومنظار يتطلع إلى كل محدث فيرجمه بشهاب ثاقب لا تقوم له قائمة بعده، حيث يتضح أمره ويظهر عوره (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) ، وما ظننا يوماً من الأيام أن معاولأهل الأهواء المتـثلمة وعصيهم المتـشققة ستصل إلى هذا المبلغ البعيد الشأو فيضربوا بها حرس الدين وجنده ويعتدوا على باب من أعظم أبواب العلم وهو باب الجرح والتعديل باب التصنيف؛ ليزيلوه من هذه الأمة خوفاً على ،أسيادهـم ،وبنّــائِهم !!.
والعجب أن يخرج أناس ينتسبون إلى السنة ، [يجعلون] التصنيف لهم جائز على كل الوجوه وعلى ما يشاءون ويختارون، أما غيرهم فهو في حقهم من الموبقات السبع !!!، فهم يصنفون من شاؤوا بهواهم ولا يرضون تصنيف آخرين من أهل البدع لمجرد هواهم أيضا .
أما إذا صنف أهل الحق أحد أسيادهم ومتبوعيهم بحق وبرهان غضبوا غضباً وسكَّروا أبواب التصنيف وأبواب الجرح والتعديل في وجوههم !!!!.
فخذ على ذلك مثالاً يضحك ويبكي ، الكل منا يعرف الصابوني وأنه أشعري المعتقد ولما أخرج تفسيره الصفوة وانتشر في الأقطار تصدى له كثير من أهل العلم وفقهم الله تعالى وبينوا عواره وكشفوا مخبآته وحذروا الناس من اقتناء هذا التفسير ومن التعويل عليه لما هو منطوي عليه من تأوي لأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته .
فلما جاء السيد قطب وسلطت أضواء أهل الحق على تفسيره فأخرجوا ما عنده من تأويل لأسماء الله تعالى وصفاته، ومن تخبيط في أبواب المعتقد كلها، وذكروا ما تفوه به في حق بعض الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وذكروا أيضاً ما تلفظ به لسانه وكتبه قلمه من سوء الأدب مع بعض أنبياء الله جل وعلا ، لما ذكروا ذلك ثار ثائرت بعض القوم فشنعوا وجدعوا وقالوا إن كتبه نافعه طيبة ويجب قراءتها
فقلي بربك أيها المنصف فما الفرق بينه وبين الصابوني الذي فعل به ذلك الرجل ما فعل( !!)
ما هو الفرق عند أهل العلم والإيمان ،أنا أقول إن الصابوني أحسن حالاً بمئات المرات من مثل سيد قطب ، فالصابوني يتكلم بطريقة أهل العلم الذين سبقوا ، كالصاوي والنسفي والجلالين ونحوهم .
أماهذا فهو قد جاء بأسلوب مخترع مبتدع في تفسير كتاب الله جل وعلا لم تكن عليه الأمة من قبل، وأسلوبه وطريقته مشوبة بالأفكار الضالة التي كان يعتنقها والتي كانت بعيدة عن الإسلام بعداً كاملا .
ولكن الكلام لِم يفرق بين هذا وذاك ، وما هو السر؟ !!
إلا لأجل أن هذا هو قائد الطريقة وهو شيخ الطريقة ؛ فلذا حرمته حرمة تفوق كل حرمة، فينسب كل الناس إلى البدع والتمشعر والاعتزال والجهمية ونحو ذلك، أما هذا فقفوا قد حرم الكلام عليه، وقد سيج بسياج من حديد فلا يخلص أحد إليه.
وهذا تناقض مشين ولعب بقواعد الدين، فالواجب الإنصاف والتخلي عن الأغراض والأهواء والمطامع والنزعات الحزبية العرقية في مثل هذا الباب العظيم، فالمسلم الصادق العالم المحق هو الذي يمشي على وتيرة واحدة ولا يتلون في دين الله سبحانه وتعالى…
فنقول : إن الظن الذي هو الشك في اللغة ليس كله مذموماً كما أنه ليس ممدوحاً كله، فمنه ما هو مذموم ومنه ما هو ممدوح، يقول الله سبحانه وتعالى: ( إن بعض الظن إثم ) وقد سمى الله سبحانه وتعالى الظن علماً في مواضع من كتابه كما في قوله سبحانه وتعالى: ( فإن علمتموهن مؤمنات) ، وكما في قوله جل وعلا ( وما شهدنا إلا بما علمنا) ، أما قول الله جل وعلا: ( إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) فإن المراد هنا الظن الذي يعارض العلم وهو ظن المشركين أن شركهم صحيح بدليل قوله ( لا يغني من الحق شيئاً ) وهذا يدل على أنه ظن غير الحق ، فخرج بذلك أنه حيث يذم الظن فيراد به الشك المساوي دون الغالب الراجح.
وليعلم أن أكثر أحكام الشريعة العملية مبنية على الظن الغالب الراجح ، يعرف ذلك أهل العلم وطلابه، بل أكثر قواعد الشرع مبينة على ذلك كما في قاعدة المصالح والمفاسد فإنها مبنية على الظنون ، وقد عرف أهل العلم أن الظن المعتبر ثلاث مراتب ظنٌ في أدنى المراتب وظنٌ في أعلاها وظنٌ متوسط ، كما قرر ذلك العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى، وفائدة هذا التقسيم هو الرجوع عند الاختلاف إلى أعلى الظنون دون متوسطاتها وأدناها وإذا تعارض المتوسط مع الأدنى قدم المتوسط وهكذا .
إذا تبين هذا فإننا نقول ماذا يُراد بالتصنيف بالظن ؟؟
إن كان الشك المساوي فلا يصح ذلك وعليه ينزه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث".
وإن كان الظن المعتبر في الشرع وهو الغالب الراجح فهذا يصنف به ولا ريب عند أهل العلم رحمهم الله تعالى، ولذلك لوتأملت طريقة السلف في باب الجرح والتعديل والكلام في أهل البدع تراهم يعتبرون الظن .
فمثلاً بعضهم يقول : من أخفى علينا أو عنا بدعته لم تخفى علينا ألفته ،يعني أننا نعرفه من خلال من يجالس وإن لم يظهر البدعة في أقواله وأفعاله .
وقد قال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله تعالى : لما قدم سفيان الثوري البصرة وكان الربيع بن صبيح له قدر عند الناس وله حظوة ومنزلة فجعل الثوري يسأل عن أمره ويستفسر عن حاله فقال: " ما مذهبه؟ " قالوا : " مذهبه السنة " قال : " من بطانته ؟ "قالوا : "أهل القدر" قال : " هو قدري " وقد علق ابن بطة رحمه الله تعالى على هذا الأثر بقوله : رحمة الله على سفيان الثوري : " لقد نطق بالحكمة فصدق، وقال بعلم فوافق الكتاب والسنة، وما توجبه الحكمة ويدركه العيان ويعرفه أهل البصيرة والبيان قال الله جل وعلا: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم " .
وليعلم طالب العلم أن أكثر تصنيف أهل العلم في قديم الزمن وحديثه إنما هو بالظن المعتبر، أما التصنيف باليقين فهو نادر جداً في الأمة .
والتصنيف بالظن كالتصنيف بالشهادة فإذا شهد عدلان على رجل بأنه من أهل الأهواء والبدع حكم عليه بذلك ، والتصنيف بالقرائن ونحو ذلك من الأمور التي هي مبناها على الظن كما هو في أكثر أحكام الشريعة الإسلامية.
(بتصرف من محاضرة مسائل في المنهج للشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم رحمه الله)