[بحث] ملاحظة علي تفسير بعض المعاصرين لآية: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام علي من لا نبي بعده، وبعد: فمن المعلوم أن السلف -رحمه الله- من الصحابة والتابعين هم أعلم الناس بكلام الله، وأفهمهم له، وأنهم يفهمون كل ما جاء القرآن، وكيف لا يفهمونه ولا يعرفون مراد الله -عز وجل- بكلامه وهو -سبحانه- خاطبهم بلسانهم وبالشيء الذي يعرفونه ويفهمونه؟! وهذا يقتضي أن نقدم فهمهم لكلام الله -عز وجل- علي فهم غيرهم من الخلف، وقد عمل بهذا علمائنا الأجلاء في العصر الحديث، إلا أني وجدت تفسيرا من بعضهم لقوله -تعالي-: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} مختلف عن تفسير السلف، وسأبين الآن كلا التفسيرين ثم أذكر -ولست مفسرا- ملاحظتي علي تفسير بعض المعاصرين، فإن أصبت فالحمد لله، وإن أخطأت فقوموني، فأقول -مستعينا بالله-: لقد وجدت تفسيرا لهذه الآية من قبل المتقدمين مختلف عن تفسير المعاصرين لها، فقد فسرها المتقدمون بما يلي: 1ـ قال ابن أبي حاتم: "حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الطِّهْرَانِيُّ ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ أَنْبَأَ الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَوْلَهُ: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ يَقُولُ:
فَكَمَا لَا يَسْتَطِيعُ ابْنُ آدَمَ أَنْ يَبْلُغَ السَّمَاءَ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ التَّوْحِيدَ وَالإِيمَانَ قَلْبَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ". 2ـ وقال ابن كثير: "قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} يَقُولُ: مَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي لَا يستطيع أن يصعد فِي السَّمَاءِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لقلب هذا الكافر في شدة تضيقه إِيَّاهُ عَنْ وُصُولِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ. يَقُولُ: فَمِثْلُهُ فِي امْتِنَاعِهِ مِنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَضِيقِهِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَيْهِ، مِثْلُ امْتِنَاعِهِ مِنَ الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ" اهـ باختصار. 3ـ وقال البغوي: "{يَصَّعَّدُ} بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالْعَيْنِ، أَيْ: يَتَصَعَّدُ، يَعْنِي: يَشُقُّ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ كَمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ صُعُودُ السَّمَاءِ". وممن قال بهذا القول من المعاصرين: 1ـ ابن عثيمين، حيث فسرها بقوله: "يعني: كأنه حين يعرض عليه الإسلام يتكلف الصعود إلى السماء، ولهذا جاءت الآية: {يَصَّعَّدُ}، بالتشديد، ولم يقل: يصعد، كأنه يتكلف الصعود بمشقة شديدة، وهذا الذي يتكلف الصعود لا شك أنه يتعب ويسأم. ولنفرض أن هذا رجل طلب منه أن يصعد جبلا رفيعًا صعبًا، فإذا قام يصعد هذا الجبل، سوف يتكلف، وسوف يضيق نفسه ويرتفع وينتهب، لأنه يجد من هذا ضيقًا". إلا أنه قال بعد ذلك: "وعلى ما وصل إليه المتأخرون الآن، يقولون: إن الذي يصعد في السماء كلما ارتفع وازداد ارتفاعه، كثر عليه الضغط، وصار أشد حرجًا وضيقًا، وسواء كان المعنى الأول أو المعنى الثاني، فإن هذا الرجل الذي يعرض عليه الإسلام وقد أراد الله أن يضله يجد الحرج والضيق كأنما يصعد في السماء". ولي مع قوله: "وسواء كان المعنى الأول أو المعنى الثاني" وقفة سيأتي بيانها. 2ـ ابن سعدي، حيث فسرها بقوله: "كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء، أي: كأنه يكلف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه". وأما المعاصرون فقد فسرها كثير منهم بغير ذلك، وسأكتفي بذكر ما جاء في التفسير الميسر الذي أصدره مجمع الملك فهد -رحمه الله-، والذي أشرف علي طبعته الثانية معالي الشيخ العلامة: صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، والذي قال فيه: "اختير لوضع صيغته الأولى نخبة من أساتذة التفسير المشهود لهم بالعلم والكفاءة، ضمن ضوابط من أهمها: 1ـ تفسير الآيات وَفْق مذهب السلف الصالح في الاعتقاد. 2ـ تقديم ما صحَّ من التفسير بالمأثور على غيره. 3ـ الاقتصار في النقل على القول الصحيح أو الأرجح" اهـ . وقد فسروا هذه الآية في هذا التفسير بقولهم: "ومن يشأ أن يضله يجعل صدره في حال شديدة من الانقباض عن قَبول الهدى، كحال مَن يصعد في طبقات الجو العليا، فيصاب بضيق شديد في التنفس". ومما سبق نعرف أن المتقدمين فسروا قوله -تعالي-: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} بقولهم: كأنه يتكلف الصعود بمشقة شديدة إلي السماء. ونعرف أن بعض المعاصرين فسروا قوله -تعالي-: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} بقولهم: كحال مَن يصعد في طبقات الجو العليا، فيصاب بضيق شديد في التنفس. والفرق بين القولين ظاهر. وملاحظتي علي تفسير بعض المعاصرين لهذه الآية: هي لماذا لم يجعلوا تفسير المتقدمين للآية هو المراد والمتعين؛ لأن الله -عز وجل- خاطبهم بما يفهمونه وبما يعقلونه؟ فلو كان المراد هو التفسير الثاني لفهموه قبلنا ولسطروه في كتبهم، وهم لم يصعدوا في طبقات الجو العليا حتي يخطر التفسير الثاني علي بالهم، فممتنع أن يكون الله -عز وجل- قد خاطبهم بشيء وأمرهم بتدبره بقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ويكون هذا الشيء غير مفهوم إلا من قبل من صعد في طبقات الجو العليا. إذا تقرر هذا، فإنه ولو كان الصعود في طبقات الجو العليا يؤدي إلي الإصابة بضيق شديد في التنفس -وهو كذلك- فلا ينبغي الاقتصار عليه كما سبق، بل الذي ينبغي هو أن يقدم التفسير الأول، ثم من أراد أن يأتي بالتفسير الثاني فله ذلك، والآية إذا احتملت معنيان لا يتنافي أحدهما مع الآخر ينبغي أن تحمل عليهما جميعا كما هو معلوم في أصول التفسير. والحمد لله رب العالمين.
منقول لتعم للفائدة والاجر
|