تفسير قوله تعالى
)وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:115)
للشيخ
محمد بن صالح ـ رحمه الله ـ
التفسير:
{ 115 } قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب }؛ اللام للاختصاص؛ يعني أن الله سبحانه وتعالى مختص بملك المشرق، والمغرب؛
وأما من سواه فملكه محدود؛ و{ المشرق } مكان الشروق؛
و{ المغرب } مكان الغروب؛ وقد وردت المشرق، والمغرب في القرآن على ثلاثة أوجه:
مفردة، ومثناة، وجمع؛
فجاءت مفردة هنا فقال تعالى: { ولله المشرق والمغرب }؛
وجاءت مثناة في قوله تعالى: {رب المشرقين ورب المغربين} [الرحمن: 17] ،
وجمعاً في قوله تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} [المعارج: 40] ؛
والجمع بين هذه الأوجه الثلاثة أن نقول:
أما «المشرق» فلا ينافي «المشارق» ، ولا «المشرقين» ؛
لأنه مفرد محلى بـ «أل» ؛
فهو للجنس الشامل للواحد، والمتعدد؛
وأما { رب المشرقين ورب المغربين }،
و{ رب المشارق والمغارب }
فالجمع بينهما أن يقال: إن جمع { المشارق }، و{ المغارب } باعتبار الشارق، والغارب؛ لأن الشارق، والغارب كثير: الشمس، والقمر، والنجوم؛ كله له مشرق، ومغرب؛ فمن يحصي النجوم!
أو باعتبار مشرق كل يوم، ومغربه؛ لأن كل يوم للشمس مشرق، ومغرب؛ وللقمر مشرق، ومغرب؛ وثنَّى باعتبار مشرق الشتاء، ومشرق الصيف؛ فمشرق الشتاء تكون الشمس في أقصى الجنوب؛ ومشرق الصيف في أقصى الشمال؛ وبينهما مسافات عظيمة لا يعلمها إلا الله؛
وسورة «الرحمن» أكثر ما فيها بصيغة التثنية؛ فلذلك كان من المناسب اللفظي أن يذكر المشرق، والمغرب بصيغة التثنية؛ أما عند العظمة فذكرت بالجمع: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين} [المعارج: 40، 41] ؛
فقوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب } أي مشرق كل شارق؛ ومغرب كل غارب؛ ويحتمل أن المراد له كل شيء؛ لأن ذكر المشرق والمغرب يعني الإحاطة والشمول.
قوله تعالى: { فأينما تولوا فثم وجه الله }؛
«أين» شرطية؛ و «ما» زائدة للتوكيد؛
و{ تولوا } فعل الشرط مضارع مجزوم بأداة الشرط؛ وعلامة جزمه حذف النون؛
وقوله تعالى: { فثم وجه الله }: الفاء رابطة لجواب الشرط؛
و{ ثم } اسم إشارة يشار به للبعيد؛ وهو ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم؛ { وجه } مبتدأ مؤخر؛
والجملة من المبتدأ وخبره في محل جزم جواب الشرط.
قوله تعالى: { تولوا } أي تتجهوا؛
{ فثم } أي فهناك؛ والإشارة إلى الجهة التي تولوا إليها؛
و{ وجه الله }: اختلف فيه المفسرون من السلف، والخلف، فقال بعضهم: المراد به وجه الله الحقيقي؛
وقال بعضهم: المراد به الجهة: { فثم وجه الله } يعني: في المكان الذي اتجهتم إليه جهة الله عز وجل؛ وذلك؛ لأن الله محيط بكل شيء؛
ولكن الراجح أن المراد به الوجه الحقيقي؛ لأن ذلك هو الأصل؛ وليس هناك ما يمنعه؛
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قِبَل وجه المصلي(2)؛
والمصلُّون حسب مكانهم يتجهون؛ فأهل اليمن يتجهون إلى الشمال؛ وأهل الشام إلى الجنوب؛ وأهل المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى الشرق؛ وكل يتجه جهة؛ لكن الاتجاه الذي يجمعهم الكعبة؛ وكل يتجه إلى وجه الله؛
وعلى هذا يكون معنى الآية:
أنكم مهما توجهتم في صلاتكم فإنكم تتجهون إلى الله سواء إلى المشرق، أو إلى المغرب، أو إلى الشمال، أو إلى الجنوب.
قوله تعالى: { إن الله واسع عليم }؛
«الواسع» يعني واسع الإحاطة، وواسع الصفات؛ فهو واسع في علمه، وفي قدرته، وسمعه، وبصره، وغير ذلك من صفاته؛
و{ عليم } أي ذو علم؛ وعلمه محيط بكل شيء.
الــفوائــد:
1 – من فوائد الآية: انفراد الله بالملك؛ لتقديم الخبر في قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب}.
2 – ومنها: عموم ملك الله؛ لأن المشرق والمغرب يحتويان كل شيء.
3 – ومنها: إحاطة الله تعالى بكل شيء؛ لقوله تعالى: { فأينما تولوا فثم وجه الله }.
4 – ومنها: عموم ملك الله تعالى للمشرق، والمغرب خلقاً وتقديراً؛ وله أن يوجه عباده إلى ما شاء منهما من مشرق ومغرب؛ فله ملك المشرق والمغرب توجيهاً؛ وقد سبق أن قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها…} [البقرة: 106] إلى آيات نسخ القبلة كله تمهيد لتحويل القبلة؛ فكأن الله تعالى يقول: لله المشرق والمغرب فإذا شاء جعل اتجاه القبلة إلى المشرق؛ وإذا شاء جعله إلى المغرب؛ فأينما تولوا فثم وجه الله.
5 – ومنها: إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: { فثم وجه الله }.
6 – ومنها: أن الله تعالى له مكان لقوله تعالى: { فثم }؛ لأن «ثم» إشارة إلى المكان؛ ولكن مكانه في العلو؛ لا يحيط به شيء من مخلوقاته؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أين الله؟ قالت: في السماء»(3) .
7 – ومنها: إبطال بدعتين ضالتين؛
إحداهما بدعة الحلولية القائلين بأن الله تعالى في كل مكان بذاته؛ فإن قول هؤلاء باطل يبطله السمع، والعقل، والفطرة أيضاً؛
الثانية: قول النفاة المعطلة الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم، ولا خارجه؛ ولا فوق العالم، ولا تحته؛ ولا يمين العالم، ولا شمال العالم، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عن العالم؛ وهذا القول قال بعض أهل العلم: لو قيل لنا: صفوا لنا العدم ما وجدنا وصفاً أدق من هذا.
8 – ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما: { واسع }، و{ عليم }.
9- ومنها: إثبات سعة الله، وعلمه؛ ونستفيد صفة ثالثة من جمع السعة والعلم؛ للإشارة إلى أن علم الله واسع بمعنى أنه لا يفوته شيء من كل معلوم لا في الأرض، ولا في السماء.
———————-
المصدر
موقع الشيخ العثيمين ـ رحمه الله ـ
تفسير سورة البقرة – المجلد الثاني