المقدمة : طرح المشكلة : تميز مجال "الإبستمولوجيا" بإثارة عدة قضايا منهجية حول مدى إمكانية قيام علوم إنسانية ترقى معارفها إلى مستوى موضوعية ودقة الحقائق التي أنتجتها العلوم الطبيعية .وقد شكلت مسألة " الموضوعية " وجها بارزا لهذه الإشكالية، بهدف إثبات تعذر قيام معرفة علمية بالظواهر الإنسانية بسبب انتفاء شرط الموضوعية، لكن واقع هذه الدراسات يثبت العكس لقد استطاعت هذه العلوم أن تحقق تقدما في فهم الظاهرة الإنسانية من خلال ما وصلت إليه من قوانين. و من هنا تبدو الأطروحة القائلة بتعذر الموضوعية في العلوم الإنسانية باطلة، فما هي مبررات إبطال هذا الموقف؟
منطق الأطروحة: تعذر تحقيق الموضوعية في دراسة الظواهر الإنسانية لتعذر شروطها و هي:
عدم تشابه الظاهرة الإنسانية مع الظاهرة الطبيعية؛ إذ أنها ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد وفريدة من نوعها. يتأثر الباحث في العلوم الإنسانية بالموضوع الذي يدرسه لأنه جزء منه، ويصعب عليه أن يدرسه بحياد ونزاهة وموضوعية. كما قد يؤثر الباحث في الظاهرة الإنسانية؛ فيغير من طبيعتها ويفهمها فهما خاصا، مما يجعل النتائج تختلف من باحث لآخر ويجعل إمكانية التعميم متعذرة.
يتداخل الموضوع في العلوم الإنسانية مع الذات ويصعب الفصل بينهما، وهذا بخلاف العلوم الطبيعية التي يمكن فيها فصل الذات عن الموضوع. يتمركز الباحث في العلوم الإنسانية حول ذاته؛ أي أنه يقدم رؤيته للظاهرة الإنسانية المدروسة انطلاقا مما يحمله في ذاته من مشاعر وأفكار ومعتقدات ترتبط بالتزامه بمواقف فلسفية أو مذاهب إيديولوجية أو عقائدية. وهذا ما يجعل الباحث يسقط تصوراته الذاتية على الظاهرة ويجعل تحقيق الموضوعية مسألة غاية في الصعوبة. إن انخراط الذات في الموضوع يجعلها تعتقد في نوع من المعرفة الحدسية بالموضوع، وهذا مخالف للمناهج والتقنيات العلمية التي من شأنها أن تحقق الموضوعية المتوخاة.
نقد أنصار الأطروحة: إن الذين كانوا يزعمون بأن الموضوعية متعذرة في العلوم الإنسانية نرد عليهم بأنه يمكن تحقيق الموضوعية في دراسة الظواهر الإنسانية.هذا هو الموقف الذي تبنته النزعة الوضعية من خلال تأكيدها على إمكانية دراسة الإنسان بطريقة علمية تضمن الموضوعية عن طريق تطبيق المنهج التجريبي، سواء تعلق الأمر بالظواهر النفسية (المدرسة السلوكية مع "جون واطسون" في أمريكا)، قوانين علم النفس، أو بالظواهر الاجتماعية (المدرسة الوضعية في فرنسا مع "سان سيمون" و"أوغست كونت" و"دوركايم"). فبخصوص الظواهر الاجتماعية، اتفق أقطاب الوضعية (الفرنسية) على الدعوة إلى إخضاعها للدراسة العلمية من خلال التعامل معها ك"أشياء" أو موضوعات لها وجودها الخارجي المستقل عن الذات، قابلة للملاحظة والتجريب، وتخضع – مثل ظواهر الطبيعة – لقوانين ثابتة يمكن الكشف عنها. وذلك ما تعبر عنه قولة رائد هذا التيار"أوغست كونت" :" القوانين الطبيعية تحدد تطور الجنس البشري مثلما يحدد قانون الطبيعة سقوط الحجر"…وقد أسس "كونـت" عـلم الاجتماع أو "السوسيـولـوجيا" معتـبرا إياها بمثابة "فيزياء اجتماعية"؛ وأكد على ضرورة دراسة الظاهرة الاجتماعية بطريقة علمية/وضعية تمكن من تحريرها من وصاية اللاهوت والميتافيزيقا أسوة بما حصل في ميدان الفلك والفيزياء مع الظاهرة الطبيعية، وذلك في سياق التطور الذي يفرضه قانون "الحالات الثلاث" الذي اشتهر به (المرحلة اللاهوتية / المرحلة الميتافيزيقية / المرحلة الوضعية)..وبالمثل، يدعو تلميذه "إميل دوركايم" إلى التخلي عن التصورات الذاتية أو الأحكام المسبقة عند دراسة الظواهر الاجتماعية،وذلك على اعتبار أنها ظواهر تتوفر على وجود موضوعي مستقل كما يدل على ذلك طابعها القهري أو الإلزامي.
كما أن الحوادث التاريخية تصلح أن تكون موضوع معرفة علمية موضوعية وأن المنهج التاريخي هو المنهج الاستقرائي الواقعي. منهج تتوفر فيه خصائص الروح العلمية وكذا الملاحظة والفرضية والتجربة وهذا ما أكّد عليه "محمود قاسم" في كتابه [المنطق الحديث ومناهج البحث] قائلا {لقد ضاقت المسافة التي كانت تفصل التاريخ عن العلوم التجريبية فقد طبق المؤرخون أساليب التفكير الاستقرائي على بحوثهم} والمنهج التاريخي يعتمد على خطوات أساسية وهي أربعة [جمع المصادر والوثائق] سواء المقصودة بالتاريخ أو غير المقصودة وهي ضرورية قال عنها "سنيويوس" {لا وجود لتاريخ دون وثائق وكل عصر ضاعت وثائقه يضل مجهولا إلى الأبد} وبعد جمعها تأتي مرحلة[التحليل والنقد] وهنا يستعين علماء التاريخ بـالتحليل الكيميائي ومثل ذلك استعمال كربون 14 للتأكد من العمر الزمني وكذا النقد الداخلي للوثيقة الذي ينصب على المضمون وشرط النقد الموضوعية قال "ابن خلدون" {النفس إذا كانت على حالة من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر} وتـأتي مرحلة [تركيب الظواهر التاريخية]يرتب المؤرخ الحوادث ترتيبا زمنيا ومنطقيا وقد يجد فجوات فيلجأ إلى الفرضية وبعدها يصل إلى مرحلة تغيير التاريخ وقد يستعين بتجربة المقارنة كما فعل "مارك بلوخ" في دراسته التاريخية على الإقطاع حث قارن بين [ألمانيا, فرنسا, ايطاليا, انجلترا] ووجد أن الإقطاع ارتبط ظهوره بالزراعة واختفى في عصر الصناعة.
إبطال الأطروحة بحجج شخصية: الواقع يثبت مدى موضوعية النتائج المحققة في الدراسات الإنسانية من خلال ما تقدمه هذه العلوم من خدمات للإنسان و حل الكثير من المشكلات . علم النفس…. التحكم في بعض الظواهر و إن كان نسبيا.. فقد حققت العلوم الإنسانية تحولات كبرى في فهم الواقع الاجتماعي والواقع الاقتصادي للإنسان وفي فهم بنيته النفسية السليمة، وفي فهـم الأمراض النفسية والعقلية واللغوية، وفي فهم الذكاء والوجدان واللغة والبنيات الذهنية والأطر والبنيات المعرفية. والمنجزات المتحققة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، على الرغم من طابعها الجدلي، ومن حيوية النقاشات الدائرة فيها بين مختلف المدارس والتوجهات والانتماءات المدرسية والمذهبية والإيديولوجية، هي منجزات لا تقل أهمية عما حدث في ميدان المـادة والطبيعة والحياة والكون.
الخاتمة: حل المشكلة: يمكن تحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية و إن كانت نسبية مقارنة بالعلوم الطبيعية. و عليه فالقول بتعذر الموضوعية في مجال الدراسات الإنسانية قول ليس له ما يبررهلأن هذه الإشكالات الميتودولوجية التي تعترض العلوم الإنسانية نابعة أساسا من خصوصية الموضوع وهو الظاهرة الإنسانية.