بسم الله الرحمن الرحيم
مصطلحات الأطعمة في العامية الجزائرية
وصلتها بالعربية الفصحى(*)
د. عبد الكريم عـوفي(**)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفصح العرب لسانا وأبلغهم حجة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله الأمجاد وصحبه الأخيار، وبعد
فإن الحديث عن المصطلح العلمي في التراث الإسلامي حديث ذو شجون، إذ إن العلماء المسلمين قد كتبوا في شتى حقول المعرفة الإنسانية بعدما تمثلوا علوم غيرهم، وكانوا في فترة من الفترات سدنة العلم وعلى تراثهم الفكري قامت النهضة العلمية في أوربا بعد العصور المظلمة. ولا شك أن جمهرة العلماء الذين يشاركون في هذا الملتقى العلمي سيكشفون الجوانب العلمية التي بلغها أسلافنا في إنتاج المصطلح وتوليده عبر الأعصر المختلفة وسيقدمون خلاصة تجربتهم في التعامل مع التراث. وتراثنا -كما تعلمون- لم يحظ بالدراسة الشاملة، بل الكثير منه مازال مخطوطا ينتظر من ينفض الغبار عنه.
ونعتقد أن هذا الملتقى حلقة جديدة تضيف لبنة أخرى في صرح الحضارة العربية الإسلامية وتبرز ما أبدعه أسلافنا في حقول المعرفة الإنسانية وتثبت أنهم أصابوا من أفنان المعرفة والفنون ما لم يصبه غيرهم.
ولعل أوكد الأمور التي يمكن الإشادة بها في مثل هذا الملتقى العلمي هو أن هذا الجانب المتعلق بالمصطلح العلمي في تراثنا قد صيغ باللسان العربي، هذا اللسان الذي بقي خالدا واستعصى على التحريف والتبديل بعد مرور أربعة عشر قرنا.
إن اللغة العربية التي حفظ لها القرآن الكريم الاستمرار والدوام هي التي أنتجت هذا الزخم من المصطلحات، وهذا الكم من الفكر الإنساني، وهي قادرة اليوم على استيعاب علوم العصر ومواكبة النهضة العلمية المعاصرة. وليس صحيحا ما يدعيه أعداء العربية من أنها لغة عاجزة لا تستطيع مواكبة التطور العلمي الذي تشهده المدنية المعاصرة.
عندما نتحدث عن اللغة العربية اليوم فإننا لا نهدف إلى إبراز خصائصها ومكانتها بين اللغات العالمية، إذ إن هذه الأمور معروفة لدى العام والخاص، وإنما غايتنا لفت انتباه الدارسين والباحثين إلى جانب حيوي من جوانب حياة اللغة العربية في تطورها عبر مسيرتها التاريخية.
فاللغة العربية كغيرها من اللغات البشرية أصابها تطور في مستوياتها الأربعة، لأن اللغة كالكائن الحي تنمو وتتطور كما ينمو الفرد المستعمل لها، فهي ظاهرة اجتماعية وإنسانية يصيبها ما يصيب المجتمع في مناحي الحياة المختلفة. وهذا التطور يؤدي أحيانا إلى انحرافات لغوية مما يسمح بظهور اللهجات المحلية، وهو أمر لا يخص اللغة العربية بل هو عام في اللغات البشرية.
ومن مظاهر هذا التطور دخول ألفاظ جديدة في لسان من الألسنة بحكم عامل من عوامل الاحتكاك اللغوي المعروفة، أو توليد ألفاظ أخرى يقتضيها تطور المجتمع نفسه.
فاللغة العربية الفصحى تفرعت عنها لهجات محلية وإقليمية لكنها بقيت محافظة على كيانها المستقل، لأن هذه اللهجات لم تبتعد عن اللغة الأم ولذلك نجد وشائج القربى قائمة بين جميع اللهجات الإقليمية واللغة العربية الفصحى في جميع الأقطار العربية.
ولعل أبرز ما يعكس صلة اللهجات المحلية باللغة العربية الأم الألفاظ والتعابير التي يستعملها الأفراد في حياتهم اليومية في المجتمعات التي ينتمون إليها.
يقول الدكتور محمد عابد الجابري: (الألفاظ في لغة العرب كائنات حية، فاعلة ومنفعلة، عاملة ومعمول فيها تماما مثل أفراد القبيلة، وبالتالي فحياة الكلمات في نظام اللغة تماثل حياة العربي في نظام القبيلة)(1).
إن العامية الجزائرية واحدة من العاميات المستعملة في الأقطار العربية تحتفظ بصلة القربى باللغة الأم: فهي مزدانة بالألفاظ والمصطلحات الفصيحة التي استعملها العرب الأوائل،منذ حلولهم في أرض الجزائر الطيبة.
وبهذه المناسة أردت لفت الانتباه إلى حقل ألفاظ الأطعمة في عاميتنا وعلاقتها بالعربية الفصحى، لأني ألفيت عوامنا يرددون كل يوم مصطلحات لها جذور فصيحة في لغتنا العربية لكن الكثير من المتعلمين يهملونها ولا يعيرونها أي اهتمام، لأنها عامية في نظرهم، وهي أحق بالجمع والتدوين والاستعمال.
وقبل أن أقدم أمثلة من الألفاظ والمصطلحات التي تدور على ألسنة عوامنا أذكر أن الطعام كان ومازال العنصر الرئيسي في حياة الإنسان منذ أن خلق على أديم الأرض، فقد اتخذه وسيلة لبقائه واستمراره، وتفنن وأبدع فيه عبر العصور المختلفة حتى غدا الطبخ فنا جميلا كباقي الفنون الأخرى.
وقد أُلِّفت في الطبخ كتب منذ القديم نذكر منها على سبيل المثال كتاب (فن الطهي) لأبيسيوس الروماني في القرن الرابع بعد الميلاد، كما وجدت حفريات تبين صنوف الأغذية والأطعمة التي عرفها السومريون والبابليون في بلاد ما بين النهرين(2).
وتراثنا العربي الإسلامي يزخر بهذا النوع من التأليف، إذ الحضارة التي أسسها العرب والمسلمون لم تغفل هذا الجانب المهم في حياة الإنسان، فهذا ابن النديم يذكر لنا في كتابه الشهير (الفهرست)(3) طائفة من الكتب التي ألفت في الطبيخ والأطعمة خلال القرون الأولى من الهجرة النبوية.
ولعل الجميع يذكر ما قام به علماء اللغة في فترة الجمع اللغوي والتدوين من عناية بالألفاظ المتعلقة بالإنسان من حيث جسمُه وأعضاؤه ومأكله ومشربه ومسكنه وكل ما له علاقة بحياته في المجتمع، فقد صنفوا المفردات اللغوية في حقول دلالية هي أشبه بما يطرحه اللسانيون المعاصرون في المجالات الدلالية عند دراسة الألفاظ.
ومما اعتنوا بجمعه وتدوينه ألفاظ الأطعمة والأشربة وآلات الأكل والقدور وأنواعها، سواء أكانت تلك الألفاظ عربية النجار أم دخيلة من لغات أخرى أم مولدة. وهذه الثروة اللفظية جمعتها بعض الرسائل ومعاجم المعاني، وأوردت بعضها المعاجم اللغوية الأخرى.
فقد ضمن أبو عبيد القاسم بن سلام الجمحي (ت 224هـ) كتابه (الغريب المصنف) فصولا من هذه الألفاظ والمصطلحات(4).
وصنع صنيعه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي (ت 421هـ) في كتابه (مبادئ اللغة)(5).
كما أورد أبو منصور محمد بن إسماعيل الثعالبي (ت 430هـ) فصولا مماثلة في كتابه (فقه اللغة وسر العربية)(6)
وفي الأندلس نجد أبا الحسن علي بن اسماعيل المعروف بابن سيده (ت458هـ) يخصص في كتابه (المخصص)(7) فصولا وافية لألفاظ الأطعمة والأشربة والقدور وآلات الأكل. وقد ألف غير هؤلاء في الموضوع كتبا كثيرة في العصور اللاحقة حتى يومنا هذا، ولمكتب تنسيق التعريب في الرباط معجم في الأطعمة(8)، كما ضمن الدكتور عبد المالك مرتاض كتابه (العامية الجزائرية وصلتها بالعربية الفصحى) فصلا خاصا بالأطعمة.
وكتب التراث اللغوي والأدبي حافلة بهذه الألفاظ التي تخص حقل الأطعمة، لكن الأقلام هجرتها حتى غدت في حكم الألفاظ الميتة، إذ بقيت حبيسة المعاجم وفي بطون كتب اللغة والأدب، لا يلتفت إليها إلا نادرا، وإذا وظفها أحد في كتاباته الإبداعية أو مقالاته الاجتماعية في الصحافة فإنه غالبا ما يحصرها بين قوسين ليؤكد للقارئ أن هذا اللون من الألفاظ من قاموس العامة، وقد يتهم من يوظفها في أعماله الإبداعية ولا يحصرهـا بين قوسين بأنه تسفل إلى كلام العامة، وربما عد من مروجي العامية على حساب الفصحى.
لكن الحقيقة الغائبة عن كثير من الناس في مجتمعنا وفي مجتمعات عربية أخرى -ولا سيما خاصة الخاصة من أهل العربية- هي أن ألفاظا ومصطلحات كثيرة تخص مجالات الحياة اليومية للفرد بما فيها ألفاظ الأطعمة والأشربة ذات أصول عربية فصيحة، فهي إما أنها مستعملة استعمالا فصيحـا كما وردت على ألسنة العرب الأقحاح وروتها كتب اللغة ومعجماتها، وإما أن تطورا ما من التطورات التي تصيب اللغة قد أصابها فوقع فيها انحراف لكنه لم يبعدها عن أصلها الفصيح وبقيت تؤدي وظيفتها الأصلية بالدلالة نفسها، أو أنها تطورت دلاليا من مجال إلى مجال آخر لحاجة مستعمليها ولظروف المجتمع الذي استعملت فيه، لأن اللغة -كما ذكرنا- كالكائن الحي تتطور وتتغير كما يتطور الفرد المستعمل لها في ذات المجتمع.
إن العامية الجزائرية مزدانة بالألفاظ والمصطلحات الدالة على الأطعمة وما يتعلق بها مما ورثناه عن أسلافنا، وفي الوقت نفسه تزاحمها جملة من المصطلحات المولدة التي تقتضيها ضرورة الحياة اليومية من جهة، والألفاظ الحضارية التي تقذف بها المدنية المعاصرة يوميا من جهة ثانية.
إن احتفاظ عاميتنا بهذا الموروث المصطلحي من فصيح العربية، كالثريدة والعصيدة والزريقة والقلية والقديد والوليمة والشواء والخليع والرغيدة والهريسة والمزيت والكفتة، وغيرها من مئات الألفاظ التي تدور على ألسنة أفراد الأسر كل يوم مما ولد حديثا للحاجة الاجتماعية، كالمحمر والبنان والطمينة والمحجوبة والمحشي والشخشوخة والجاري والطاجين والبوراك والمتوبة…الخ. هذه الألفاظ وغيرها دليل ثراء لغتنا، ومؤشر يفرض علينا إيقاف السيل الجارف من المفاهيم الحضارية والعلمية التي تفد علينا من الغرب ولها نظائر في لغتنا اليومية مما له صلة بالفصحى.
إن الدعوة إلى توظيف المصطلحات التراثية المعبرة عن هذا الوافد الجديد خير ما يضمن سلامة لغتنا من الهجين المستورد، ولكن هذه الدعوة لا تعني غلق الباب أمام ما لانجد له بديلا في لغتنا، إذ اللغة لا يمكن أن تحاط بسياج وتبقى في معزل عن التأثيرات الخارجية، لأن اللغات البشرية تأخذ بعضها من بعض، واللغات مهما كانت راقية فإنها لا يمكن أن تبقى في معزل عن التأثيرات الخارجية كما قال فندريس(9).
تأصيل بعض الألفاظ والمصطلحات الدالة على الأطعمة :
وفيما يلي قراءة لبعض المصطلحات التراثية مما يستعمل في لسان عوامنا على سبيل المثال لا الحصر، تقفوها جملة من الملاحظات والاقتراحات:
1 – الزريقة: كسرة تفتت وتخلط مع السمن والفول السوداني والتمر، ويخلطها بعض الناس بالحليب والتمر، وتؤكل سائلة أو جامدة، والقاف تنطق معقودة كالجيم المصرية، وهذه الأكلة يستعملها سكان سيدي عقبة وعين الناقة في ولاية بسكرة وبعض مناطق الجنوب الجزائري.
وأصل الزريقة في العربية الفصحى (الزريقاء). قال الخطيب الإسكافي: "والزريقاء بنت نارين، خبز يكسر في ماء وسمن"(10).
وفي اللسان لابن منظور "والزريقاء: ثريدة تدسم بلبن وزيت"(11).
فالمصطلح العامي هو نفسه في العربية الفصحى مع تحريف بسيط في البنية لم يؤثر على المعنى الأصلي وقد نطقت به العامة على صيغة (فعيلة) التي جاءت بها أكثر أطعمة العرب(12). غير أن العامة أسكنوا أول الكلمة جريا على عادتهم.
وفي منطقة بريكة بولاية باتنة نوع من الأطعمة يسمى شخشوخة الزريقة،يقدم في مناسبة قدوم الربيع.
أما قول الإسكافي: بنت (نارين) فله استعمال مماثل في لسان العامة عندنا، إذ يطلق في مدينة قسنطينة على طبق شهي اسم (بونارين) ومعناه أن الطعام يطبخ على نارين واحدة من أسفل وأخرى من فوق، ولعل ماذكره الإسكافي يريد به هذا المعنى.
2 – القلية: ما يعد من اللحوم والأكباد والرئة والحمص وبعض التوابل والبهارات، وأكثر المناسبات التي يعد فيها هذا النوع من الأطعمة هي عيد الأضحى المبارك، وإقامة الأعراس، وقد عمم المصطلح حديثا فأصبح يطلق على ما يقلى من فلفل وبطاطا وطماطم وأجر(13) وغير ذلك. ونسمع الناس يرددون في بيوتهم عبارة غداؤنا اليوم قلية (مقلة).
وهذا اللفظ عربي فصيح استعمله العرب قديما بنفس الاستعمال الجاري على ألسنة العامة اليوم. يقول الإسكافي في (مبادئ اللغة): "القلية من قلوت الشئ، وقلوته إذا شويته مع ندوة"(14).
وجاء في اللسان "والقلية من الطعام والجمع قلايا، والقلية: مرقة تتخذ من لحوم الجزور وأكبادها، والقلاّء: الذي حرفته ذلك"(15).
3 – البسيسة: نوع من الحلوى من دقيق القمح والحمص المقليين والسمن أو الزيت والعسل، وأهل تلمسان ينطقونه (لمبسس) بسكون الميم(16)، أما البسيسة فلغة أهل الشرق الجزائري كقسنطينة وضواحيها(17). وفي الأوراس تعرف هذه الحلوى باسم (الزرير)، وتقدم في الغالب عندهم للمرأة النفساء، ومنه أيضا: بسيسة الشعير المعروفة باسم (المرمز)، والكسرة لمبسسة.
أما الطعام الذي يقدم للمرأة النفساء في العربية فيسمى الخرسة(18).
ومصطلح (البسيسة) عربي خالص. يقول أبو عبيد القاسم بن سلام في (الغريب المصنف): "البسيسة كل شئ خلطته بغيره مثل السويق بالأقط ثم تبل بالسمن أو بالرب"(19).
وفي (المخصص) لابن سيده "البسيسة الدقيق أو السويق يلت بالسمن أو بالزبد ثم يؤكل ولا يطبخ وهو أشد من اللت بللا"(20).
ويلاحظ أن هذا المصطلح التراثي قد استعمل بصيغتين (مفعل وفعيلة) وهما صيغتان فصيحتان، ومما جاء على وزنهما من المصطلحات في كلام العامة: المحمر والمجمر والمخلع والمقطعة والمزيت والمحنشة والمحمص والمشوك، والثريدة والعصيدة والهريسة والتشيشة والحريرة والوليمة، وغير هذا كثير.
والملاحظ أن هذه الألفاظ حافظت على بنائها الفصيح ولم يصبها إلا انحراف طفيف في تغير الحركة كإسكان أولها، لأن العامة تنشد الخفة في النطق، كما أن بعض هذه المصطلحات ولد حديثا لحاجة مستعمل اللغة إلى هذا المصطلح أو ذاك.
4 – الجاري: حساء يتخذ من دشيش القمح عندما يكون فريكا، أي قبل أن ينضج، ويخلط مع اللحم والطماطم وبعض البهارات.
ويشيع استعماله في الشرق الجزائري إذ لا يخلو بيت في شهر رمضان من حساء الجاري.
وعن فصاحته يقول الدكتور عبد المالك مرتاض: "إننا نرى أن هذا الإطلاق عربي فصيح لا غميزة فيه والاسم يدل على المسمى من حيث الاشتقاق اللغوي"(21). ورغم أن مصطلح (الجاري) عربي البناء، فهو من الألفاظ المولدة التي مكن لها الاستعمال الاستمرارية، لأن "المصطلح الذي يلقى القبول والاستعمال من قبل الجمهور هو الذي يحظى بالبقاء والاستمرار"(22). والجاري أنواع، منه جاري دويدة، وجاري لسان العصفور، وجاري مرمز، كما هو الحال في المشرق العربي ولكنهم يستعملون مصطلح الحساء، وهو عربي فصيح أيضا.
5 – الفريك: وهو القمح الذي يعد منه الجاري قبل أن ينضج، عربي فصيح يطرد في ألسنة العامة ولا سيما أهل البوادي والأرياف ممن يعملون في الزراعة، فهم يأكلونه حبا أو دشيشة.
أما عن أصله الفصيح فيؤكده النص التالي الوارد في اللسان "وأَفْرَكَ الحبك حان له أن يفرك، والفريك طعام يفرك ثم يُلَتّ بسمن أو غيره"(23).
6 – الطاجين: آلة من آلات الطبيخ، وهو المقلى الذي تطيب فيه أنواع الكسور، كالحرشاية والمطلوع والشخشوخة وغيرها، كما تقلى فيه الحبوب كالقمح والشعير والحمص ويسميه بعض الناس (الفراح)، وهو نوعان: نوع يصنع من الحديد وهو حديث، ونوع آخر يصنع من الفخار.
ومصطلح الطاجين دخيل في العربية من اللغة الفارسية(24)، وفد إلى الجزائر مع الفاتحين الأوائل وبقي مستعملا في ألسنة الناس حتى يومنا هذا، ولكن العامة لم تكتف بالاستعمال الأصلي بل وسعوا مجاله الدلالي فاصبح يطلق على أصناف من الأطعمة الرفيعة التي تقدم في المناسبات الخاصة والأفراح.
ومن هذه الأصناف: طاجين العنب وطاجين الزيتون وطاجين التفاح وطاجين الشواء وطاجين الإجاص وطاجين العين وطاجين الخوخ وطاجين السفرجل وطاجين شباح الصفرا، وغيرها.
7 – الشخشوخة: نوع من الكسور تحضر من الدقيق وتطهى في المقلاة الفخارية (الطاجين)، ثم تفتت إلى قطع حسب النوع المراد تحضيره، وهي -فيما نرى- الثريدة التي عرفها العرب قديما بأنواعها المختلفة.
والشخشوخة طعام رفيع يقدم في المناسبات الخاصة، كالمولد النبوي الشريـف وعاشوراء والأعراس والحفلات الخاصة بالنجاح، كما تقدم إكراما للضيف العزيز.
وهذا المصطلح مولد، لأني لم أقف على أصل له في العربية الفصحى، إذ فتشت في كتب اللغة ومعجماتها فوجدت أن "الشخشخة: صوت السلاح"(25). ولكثرة استعمال هذا المصطلح ودورانه على ألسنة الناس اتسع مجاله الدلالي -كما في مصطلح الطاجين- فصار يطلق على أنواع كثيرة من الأطعمة مع الاحتفاظ بالاسم الأول، فإذا أطلق المصطلح مفردا كان المراد الشخشوخة المحضرة على شكل الرقاق (طبقات بعضها فوق بعض)، أما إذا خصص المصطلح بالوصف فإنه يعني صنوفا أخرى بحسب الوصف.
ومن أصنافها الشائعة في منطقة الأوراس وبعض مناطق الجنوب أذكر على سبيل المثال: شخشوخة الحرشاية وشخشوخة الرغدة التي يسميها سكان آريس (شخشوخى بومغلوث) وشخشوخة الحامضة وشخشوخة لمفرمسة وشخشوخة الزريقة وشخشوخة الشواط، وشخشوخة لفطير، وشخشوخة الرفيس التي تعرف في آريس باسم (الزِّراوى) وشخشوخة الرزام (أم الرزام)، وشخشوخة الظفر التي تشتهر بها مدينة قسنطينة.
ولعل هناك تسميات أخرى مستعملة في مناطق من الوطن لا نعرفها.
إن هذا التنوع في أسماء الأطعمة والثراء في المصطلح في لسان العامة له نظير في العربية الفصحى، إذ ذكرت سابقا أن الثريدة لها تسميات كثيرة حفظتها لنا كتب اللغة ومعجماتها(26).
8 – الرب: عصارة الفواكه المطبوخة بالسكر، ويستعمل هذا النوع من الأطعمة في الجنوب، كبسكرة وسيدي عقبة. ويحضر بوضع حبات التمر في قليل من الماء على نار خفيفة حتى تتحلل التمرات، ثم يصفى الخليط ويعصر ويعاد مرة ثانية على النار حتى يعقد، ثم يحفظ الرب في مكان بارد، ويتناول في أي وقت من الأوقات.
ومصطلح الرب عربي فصيح، ذكرته كتب اللغة ومعاجمها، فقد ورد في اللسان "الرب: ما يطبخ من التمر وهو الدبس أيضا… والرب: الطلاء الخاثر وقيل: هو دبس كل ثمرة، وهو سلاقة خثارتها بعد الاعتصار والطبخ، والجمع الربوب والرباب"(27).
والدبس مثله، فقد ورد في اللسان أيضا "والدِّبْسُ والدِّبِسُ عسل التمر وعصارته"(28).
هذه بعض المصطلحات الدالة على الأطعمة ممـا يجري على ألسنة العامة من الناس في المجتمع الجزائري ولا نزعم أننا أحطنا بها جميعا، لأن محاولة جمع هذه الألفاظ قد تمت في بعض مدن الشرق والجنوب، وأعتقد أن لغتنا المحكية في جميع أنحاء الوطن غنية بهذا النوع من المفردات، ومما تقدم يمكن أن نلاحظ جملة من الملاحظات وهي:
1. أن عاميتنا مزدانة بالألفاظ الفصيحة التي تخص حقل الأطعمة،كما في الحقول الأخرى، إذ تبين بعد جمع عدد كبير من المفردات وعرضها على كتب اللغة والمعجمات أن استعمالها يوافق الاستعمال العربي من حيث بنيتها ودلالتها،ولم يصبها انحراف إلا في الحركة أو زيادة حـرف أو حذف آخر وبقيت قريبة من الأصل العربي الفصيح،وهذا الانحراف تعرفه اللغات البشرية جميعا.
2. أن كثيرا من هذه الألفاظ قد وفدت مع الفاتحين الأوائل فبقيت تجري على ألسنة الناس تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، لكن الطبقة الخاصة عزفت عنها ولم تستعملها في المكاتبات والخطابات الرسمية والشفهية، فتنوسيت وصارت حبيسة في بطون المعجمات وكتب اللغة والأدب،ميتة عند الخاصة لكنها حية عند العامة.
3. ورود بعض المصطلحات أصابها تطور عن طريق الإبدال أو القلب أو الإدغام أو الحذف أو الزيادة، كما أن الكثير منها جاء عن طريق النحت والاشتقاق والمجاز والتوليد، وكل هذه الطرق تسمح بإنتاج المصطلح.
4. أن الألفاظ والمصطلحات المولدة التي تدور علـى ألسنة عامة الناس في مجتمعنا تعكس جانباً حيويا من الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي يحياها أفراد المجتمع، ولذلك حافظ عليها إلى جانب الألفاظ الفصيحة وضمن لها الاستمرارية والبقاء.
5. تنوع الألفاظ والمصطلحات الدالة على الأطعمـة والأشربة والحلويات والنباتات والحبوب وغير ذلك مما له علاقة بحياة الفرد في المجتمع.
وللحفاظ على هذا الموروث من الألفاظ والمصطلحات العلمية أقدم جملة من الاقتراحات العملية للمشتغلين في حقل الدراسات اللغوية في جامعاتنا ومجامعنا اللغوية والعلمية ومراكز البحث التي تهتم بشؤون اللغة العربية، لعلها تسهم في إبراز قيمة هذه الثروة اللفظية التي تخلت عنها الطبقة المثقفة وحفظتها العامة في لسانها:
1. القيام بدراسات ميدانية شاملة لهذا النوع من الألفاظ والمصطلحات في جميع الأقطار العربية وإعداد معاجم لها، لأن ذلك يضمن سلامتها ويساعد على معرفة تطور اللغة العربية عبر العصور ويكشف عن الجديد فيها.
2. محاولة توحيد مصطلحات الأطعمة والأشربة وما يتعلق بها، مما يستعمل في الأقطار العربية، لأن الخلف كبير بين قطر وآخر بحكم الظروف التاريخية التي مر بها كل مجتمع، إذ الوافد على هذا المجتمع غير الذي وفد على ذاك.
3. العمل على توظيف هذه الألفاظ والمصطلحات في الأعمال الإبداعية والصحفية وشتى صنوف الكتابة؛ من قصة ومسرحية ورواية وشعر وغيرها في ضوء قرارات المجامع اللغوية والعلمية مع مراعاة قواعد التعريب، وذلك لتعرف الأجيال المتعلمة أن هذا المستعمل من المفردات له وجه في عربيتنا.
4. محاولة الاستفادة من الدراسات المقارنة، ولا سيما الدراسات المتعلقة باللغات السامية شقيقات العربية، لأن هذا الجانب يساعد على معرفة التطورات التي أصابت هذه الألفاظ والمصطلحات ويمكن من ردها إلى أصولها وتفسيرها تفسيرا علميا بعيدا عن التخمين والحدس.
5. دعوة أصحاب المطاعم والمحلات التجارية وترغيبهم في استعمال هذه الألفاظ في أحاديثهم لجميع الناس حتى يدركوا أنها من لغتهم وليست أعجمية أو رطانة، كما يبدو للكثير منهم.
6. السعي لإعداد معجم لمصطلحات الأطعمة والأشربة والمشهيات التي تستعمل في الأقطار العربية، ومحاولة إعطاء المقابل العربي للألفاظ الدخيلة، وهو مـا يساعد على الحد من طغيان الألفاظ الوافدة على لغتنا مما نحن في غنى عنه.
7. ينبغي أن تكون الغاية من دراسة هذا النوع من المفردات اللغوية هي خدمة اللغة العربية الفصحى، وذلك بإعادة المنحرف إلى أصله، وأخذ المولد والمعرب والوافد في ضوء أبنية وأساليب العربية، ولا يظن ظان أننا من المروجين للعامية. فهذا النوع من الدراسات يهدف إلى غاية علمية، لأن إحلال العامية محل الفصحى لغة القرآن الكريم أمر غير وارد عندنا البتة.
مصادر وهوامـش
1. حفريات في المصطلح "مقاربة أولية": الدكتور محمد عابد الجابري، مجلة المناظرة، العدد:6، السنة: 4، 1414هـ/1993م، الرباط، ص16.
2. معجم الألفاظ الدالة على المأكولات في قسنطينة وضواحيها (مخطوط)، مذكرة ليسانس، إعداد الطالبة: سعيدة لطرش، جامعة قسنطينة، 1993م، ص أ.
3. الفهرست: لأبي الفرج محمد بن أبي يعقوب إسحاق المعروف بالوراق ابن النديم، تحقيق: رضا تجدد، طهران 1391هـ/ 1971م ص378، 379.
4. الغريب المصنف: لأبي عبيد القاسم بن سلام الجمحى (مخطوط)، نسخة مصورة في مكتبتي عن نسخة المكتبة الظاهرية في دمشق، الأوراق: 64-70.
5. مبادئ اللغة: للخطيب الإسكافي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط:1، 1405هـ/1985م، ص 73-75.
6. فقه اللغة وسر العربية: لأبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، دار مكتبة الحياة، بيروت (د.ت)، ص 170-172.
7. المخصص: لأبي الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيدة، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، (د.ت) 4/118-138.
8. التعريب ومستقبل العربية: عبد العزيز بنعبد الله، معهد البحوث والدراسات العربية، 1975، ص66.
9. اللغة: ج.فندريس، تعريب عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مطبعة لجنة البيان العربي، 1950م، ص348.
10. مبادئ اللغة، ص74.
11. اللسان: لابن منظور الإفريقي، ترتيب يوسف خياط، دار الجيل ودار لسان العرب، بيروت، 1408هـ/1988م، (زرق)3/22.
12. فقه اللغة للثعالبي، ص 170، والمخصص 4/143.
(*) محاضرة ألقيت في الملتقى الدولي حول المصطلح العلمي في التراث الإسلامي والعلوم الإنسانية والشرعية الذي نظمه معهد الحضارة الإسلامية بوهران.
(**) أستاذ محاضر بمعهد اللغة العربية وآدابها – جامعة باتنة – الجزائر
__________________
باركــــ الله فيكــــــ
وفقك الله وسدد خطاك