التصنيفات
الشعر والنثر

لنتابع الفسحة .لكن مع شعر زهير هذه المرة

بسم الله الرحمان الرحيم
مع شعر زهير وخصائصه "
الحرب والسلام
> وأول نقطة يجب التوقف عندها ، هي عصر الشاعر زهير فقد كان يعيش في أواخر العصر الجاهلي ، المبشر بالبعثة المحمدية ، وهذا العصر كان عصرا معتركا بالحروب ، وحروب منها ما هي كونية يديرها ملوك كسرى والقياصرة ويتمترسون بملوك الحيرة والشام، وكان ملوك الحيرة والشام من بعد الأكاسرة والقياصرة، يحركون هذه الحرب متمترسين بالقبائل العربية ومشائخها من مرتزقة الحروب والمتاجرين بدماء أبناء القبائل العربية وشعوبها.
وكانت هناك حروب أخرى وأهم هذه الحروب هي حرب (داحس والغبراء) التي تدور المعلقة حولها ابتدأ من المطلع الطللي مرورا بالظعن ومديح السيدين هرم والحارث ثم إدانة الشاعر للحرب وتصويرها بأسلوب ينفر الناس منها، كما أنه يدين في المعلقة مثيري الحرب ومرتزقتها مثل (حصين بن ضمضم) وحتى الحكمة في نهاية المعلقة والمستنبطة من تجربته الحياتية وثقافته الشعرية والدينية وأهم قسم في المعلقة إدانته الحرب:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها، تبعثوها ذميمة
وتضر إذا أضر يتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
وتلقح كشافا ثم تنتج فتئتم

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كاحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها
قرى بالعراق من قفير ودرهم
هذه الحرب كانت تدور رحاها في أحياء الجزيرة العربية إكراما للأكاسرة والقياصرة ولكنها لا تطحن غير أبناء القبائل العربية وشعوبها وهي حرب ذميمة ، لا يمتدحها إلا تجار الحروب من كل شاكلة و*** والأبيات أعلاه تصور بشاعة الحرب وأثرها لا على النفوس البشرية وحسب بل وعلى المراعي، أي على البيئة، وبعد هذه الأبيات يتجه الشاعر إلى تصوير أحد مثيري هذه الحرب والممتنع عن الصلح واسمه (حصين بن ضمضم) قال زهير يدين أعداء السلام ممثلين بحصين بن ضمضم:
لعمري لنعمم الحي جر عليهم
بما لا يؤاتيهم (حصين ابن ضمضم)
وكان طوى كشحا على مستكنة
فلا هو أبداها ولم يتحمحم
هذا الصورة نجدها في معلقته وكانت أثناء عملية السلام التي قام بها السيدان هرم بن سنان والحارث بن عوف.
لكن موقف الشاعر من الحروب لم تقتصر على هذه الظاهرة بل كان الشعر بيده سلاحا يقاوم به كل حرب كان يثيرها تجار الحروب وكان بقدر ما يواجههم بالمقاومة العسكرية كان يواجههم بشعره مثال ذلك قوله يهجوا رجلا من فزارة ، واسمه عبيد بن أزنم:
فلا تحسبني يا بن أزنم شحمة
تعجلها طاه بشيء ملهوج
لذي الفضل من ذبيان عندي مودة
وحفظ ومن يلحم إلى الشر أنسج
وما الفضل إلا لامرئ ذي حفيظة
متى تعف عن ذنب امرئ السوء يلجج
وأني لطلاب الرجال مطلب
ولست بمثلوج ولا بمعلهج
أنا ابن رياح وأن خالي جوشن ……………….. البيت
القصيدة هنا لا تصور بشاعة الحرب كما في المعلقة ولا تصور فقط مرتزقة الحروب وتجارها، بل هي أيضا ترسم صورة لرجل تمادى على الشاعر وحاول تهديده ، فراح الشاعر يواجه المتمادين بشعره الذي ينطوي لا على التهديد والوعيد وحسب، بل وينطوي على الفخر كما في الأبيات الأخيرة من المقطع أعلاه.
فالشعر مع الشاعر ليس مجرد كلام أجوف ولا صادر عن متبجح وإنما هو قوة مادية يواجه به مرتزقة الحرب الداخليين، فبقدر ما كان الشعر هنا أداة هجاء وسخرية كان في نفس الوقت أداة تردع كل من يحاول إثارة الحرب كما في قوله يخاطب بني تميم وقد قرروا غزو غطفان قال الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني تميم
وقد يأتيك بالخبر الظنون
القصيدة كلها زجر لبني تميم وإنذار لهم إذا ما تمادوا في الغزو ، وكذلك نجد قوة الشعر عنده في مخطابته بني سبيع الذين اعتدوا على صرمة من إبل غطفان قبيلة الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني سبيع
وأيام النوائب قد تدور
فإن تك صرمة أخذت جهارا
كغرس النخل أرزه الشكير
فإن لكم مآقط غاشيات
كيوم أضر بالرؤساء إير
فقلنا يا آل أشجع لن تفوتوا
بنهبكم ومرجلنا يفور
المقطع أعلاه لا يتجه بالهجاء حبا في الهجاء وإنما يتجه للدفاع عن الحق، فالمقطع ينطوي على التهديد والوعيد والتذكير بحروب كانت قد جرت بين بني سبيع وغطفان وكان لبني سبيع يوم داحس مع غطفان، فإذا هم نسوه فإن الشاعر لم ينساه.
وكذلك قوله يخاطب بني الصيدا الذين تمادوا على مرعى الشاعر وغلامه:
فأبلغ إن عرضت لهم رسولا
بني الصيداء إن نفع الحوار
بأن الشعر ليس له مرد
إذا ورد المياه به التجار
فالشعر هنا أداة أو سلاح فعال يواجهه به المعتدون على حقه، فالشعر يمتاز بقوة توازي قوة السلاح متى ما حدا به الحداة، فالتجار كناية عن الحداة الذين يحدون بشعره الشرود.
ولشعر زهير أثر فعال بين قبائل العرب وأحياها كما يخاطب بني نوفل في قوله:
أبلغ بني نوفل عني فقد بلغوا
مني الحفيظة لما جاءني الخبر
أولى لهم ثم أولى أن تصيبهم
مني بواقر لا تبقي ولا تذر
وأن يعلل ركبان ألمطي بهم
بكل قافية شنعاء تشتهر
فالشعر هنا أداة تشهير وتوبيخ بكل من يتعرض للشاعر أو لقومه، والقافية الشنعاء إشارة إلى ذلك أما التعليل فكناية عن ترديد الحداة لشعره.
فالهجاء في شعر زهير هو كلام يواجه به الشخصيات الهزلية والمنحطة فيسخر منها سخرية تجعلهم يتجنبون العدوان لا على الشاعر وحسب بل وعلى غيره كما في قصيدته الهمزية التي يهجو بها بني عليم ويدافع عن أعراف الجوار:
وما أدري ، وسوف أخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء ..؟
فإن تكن النساء مخبآت
فحق لكل محصنة هداء
إلى أن يقول:
فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
وفي هذا الهجاء يبدو الشاعر وكأنه القاضي الذي يحكم بين المتخاصمين في حق الجوار.
وكما كان الهجاء سلاحاً في مواجهة المتحاربين ومرتزقة الحروب كذلك كان مديح الشاعر لممدوحيه كان حثا على السلام وإصلاح ذات البين كما في لاميته التي يمدح بها سنان ابن حارثة:
إذا القحت حرب عوان مضرة
ضروس تهر الناس أنيابها عصل
قضاعية أواختها مضرية
يحرق في حافاتها الحطب الجزل
تجدهم ، على ما خيلت ، هم إزاءها
وإن أفسد المال الجماعات والأزل
يحشونها بالمشرفية والقنا
وفتيان صدق لا ضعاف ولا نكل
هم جددوا أحكام كل مضلة
من العقم لا يلفى لأمثالها فصل
بعزمة مأمور مطيع وآمر
مطاع ، فلا يلفى لحزمهم مثل
هذا المديح يوجهه الشاعر لسنان ابن أبي حارثة المري ، فهنا الممدوح يمتاز بالكمال وبالقدرة فهو رجل مروءة لا رجل حرب . لكنه إذا ما قامت الحرب لا يتوانى عنها، فهو أول المحاربين دفاعا عن السلام وهو القدير على دحض الحرب وإقامة السلام بما يمتاز من عزم وحزم كما تقول البيت الأخير والعزم والحزم صفتان في البطولي كما نجدهما عند عنترة بن شداد.
هنا المديح لا يقوم على رغبة بالمال بل على رغبة في مدح أولي العزم والحزم أو أبطال السلام كما يصفهم في المعلقة:
يمينا لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فهما يمتازان بالقوة ضد طغيان الحرب ويمتازان بالضعف أمام الحق ، فالسحيل والمبرم كناية عن الضعف والقوة هذا ما تقوله البيت الأول وهو إشارة إلى موقفهما من حرب داحس والغبراء ودفعهما دية القتلى من القبيلتين رغم أنهما لم يشتركا في هذه الحرب وما كان لهما يد فيها.
وقد كان مواقف هؤلاء الزعماء إرهاصا لتوحيد أبناء الجزيرة العربية في دولة العدل والتوحيد في مدينة يثرب التي أقامها الرسول على أسس السلام (أدخلوا في السلم كافة).
لم يكن زهير أعزل كما يحاول المؤرخون تصويره ولا كان رجلا مكتوف اليدين بل هو رجل حرب إن كشرت الحرب أنيابها، ولكنه لا يبعث الحرب ظالما، كما يقول قيس بن الحطيم. بل يبعث السلام ويدعو إليه.
كان زهير محاربا يعشق السلام وكان كريما يبغض اللئام مهما كانوا، وكان لا يقابل اللئام باللؤم وإنما بالعفو والحلم وبالصدق:
إذا أنت لم تقصر عن الجهل والخنا
أصبت حليما أو أصابك جاهل
فالابتعاد عن الجهل شيمة من شيم الشاعر، وكذلك السمو عن الفحشاء أو أحاديث الفحش هي من صفاته الحميدة وإن خلعها على ممدوحه سنان ابن حارثة أثناء وفاته ، وتتجلى هذه الشيمة فيه أكثر عند قوله:
وفي الحلم إدهان، وفي العفو دربة،
وفي الصدق منجاة، من الشر، فاصدق
فاستخدام الحلم وإن كان من باب المداهنة أو المصانعة، هو طريقة مثلى لتجنب السفهاء كما أن في العفو عن اللجاجة طريقة مثلى لتحاشي اللجاجة والعادات السيئة ، كذلك فإن الصدق مهما كان هو منجاة من الشر ويختم البيت بفعل الطلب (اصدق).
الشعر عند زهير أداة فعالة في مقاومة الحرب وسفهائه وفي توجيه الناس أو العرب بشكل عام إلى قيم المروءة والأخلاق الحميدة، فقد وصفه عمر ابن الخطاب بأنه كان لا يمدح الناس إلا بما هم فيه، وكان لا يعاظل في كلامه، ويتجنب وحشي الكلام، وهذا الحكم بقدر ما هو حكم جمالي، هو حكم أخلاقي فالصدق الشعري هو جوهر الأخلاق، كما أن البيان الشعري هو شكل هذا الصدق فكل صادق أمين، والبيان ضرب من الأمانة ،كذلك تجنب وحشي الكلام، هو صفة أخلاقية أخرى ، لكن هذه الأخلاق الحميدة لا تقتصر على مديحه وهجائه بل تشمل أيضا الحكمة في شعره.

الأديان والأوثان
> لم يقتصر شعر زهير على الرغبة في المديح كما قالوا (أشعر الناس زهير إذا رغب) فهذا كلام لا يبين الحقيقة، لأن الحقيقة هي ما قلناه عن مديحه وهجائه لكن أجمل أشعار زهير هو شعر الحكمة أو الشعر الذي يشبه كلام الأنبياء، وهنا يجب القول مع الدكتور جواد على أن الشاعر زهير كان من الحنفاء، ومن الحنفاء جاءت حكمته .(راجع المفصل في تاريخ العرب جــــ6).
لقد عاش زهير في مجتمع وثني تضج به الأديان وهذه الأديان كانت تثير الحروب جنبا إلى جنب مع تجار الحروب من العرب والعجم، فكما كان للحرب تجارها كان أيضا للدين تجاره.
فقد كانت اليهودية بضاعة تقف خلف حروب الحميريين وخلف بعض القبائل اليمنية في المدينة وما حولها.
وكانت النصرانية بضاعة أخرى بقدر ما تقاوم اليهودية كانت تخدم مطامح القياصرة والغساسنة والأحباش، وبه يثيرون الحروب ضد العرب ويجعلونها حربا ضد الجميع بتهمة أن العرب وثنيون.
وكانت المجوسية دينا يخضع لمطامع الأكاسرة في إثارة الحروب بين قبائل كندة والقبائل المجاورة لها.
وهكذا كانت هذه الأديان لا تخدم الحق ولا تدعو إلى التحرر من الوثنية كما دعا الإسلام إلى ذلك، بل كانت بضاعة رائجة ورابحة تخدم مصالح الدول الكبرى، مثلها مثل الايدلوجيات المعاصرة وأحزابها في عصرنا هذا.
لكن كل هذه الأديان لم تتحرك إلا في الأرضية الوثنية فقد كانت قريش وما يحيط بها من قبائل عبارة عن مجتمع وثني لا يقبل لا بالأديان ولا بالشعر ، وكانوا أكثر الناس كفرا بالأوثان….؟!
وفي هذا الوسط الديني والشعري والوثني نشأت ظاهرة الحنفاء وكان منهم من يدعو إلى العدل والتوحيد، وفي مدار العدل والتوحيد كانت تدور حكمة زهير بن أبي سلمى.
كان الشعر ابن البيئة العربية ففي قبيلة غطفان نشأ الشاعر وعلى يد خاله الشاعر بشامة ابن الغدير تعلم الشعر كما أنه كان راوية للشاعر أوس ابن حجر وكان يعيش مع الشاعر طفيل الغنوي وكان أبو زهير شاعرا كما كان له أختان هما الخنساء وسلمى وهما شاعرتان وعلى يد زهير تعلم ابناه كعب وبجير الشعر، وكان الحطيئة راوية زهير. فهذه البيئة الشعرية هي التي أنجبت الشاعر وأنجبت شعره.
وكان هذا الشعر هو الشكل التعبيري الأول في هذه البيئة، لكن الشاعر زهير بحكم ثقافته الحنيفية استخدم الشعر وسيلة للتبشير بالحكمة الحنيفية المنحدرة من عصر إبراهيم الخليل عليه السلام فمن حنيفيته جاءت حكمته، وكانت حكمته بعثا لهذه الحنيفية السمحاء.
شكك بعض النقاد في هذا العصر مثل الدكتور/ شوقي ضيف في كتابه (تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي) شكك في حنيفية زهير واعتبره من أهل الشرك، لكن معظم مؤرخي الأدب العربي يؤكدون على أن زهيرا كان رغم بيئته الوثنية يؤمن بالله وبالبعث، وكان يؤمن بالخلود بصرف النظر عن نظرته لهذا الخلود، وكان تقيا ورعا يكره الحرب ويدعو إلى السلام، وكل هذا نجده في أشعاره كما في قوله يخاطب قبائل عبس وذبيان أثناء إقامة الصلح:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
رجالا بنوه من قريش وجرهم
يمينا لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيل ومبرم
فالقسم بالبيت ظاهرة توحيدية ترجع بأصولها إلى الحنيفية السمحاء أي إلى ديانة إبراهيم الخليل عليه السلام ومثلها قوله يخاطب زعماء عبس وذبيان أثناء الصلح:
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم
ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب ويدخر
ليوم الحساب أو يعجل فينقم
فالبيتان أعلاه يؤكدان إيمانه بالله وإيمانه بأن الله قادر وعلام،فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وعلى خافية النفوس يقوم حساب الله لكل إنسان وهذا الحساب قد يتقدم ويكون في الدنيا أو قد يتأخر إلى يوم القيامة، وهناك يلقى كل امرئ حسابه من الله سبحانه وتعالى، والبيتان يؤكدان ليس فقط إيمان الشاعر بالبعث (يوم الحساب) بل يؤكد قدرة الله وعلمه، وهذه من عقائد الحنفاء ومن عقائد إبراهيم الخليل عليه السلام.
كذلك قوله يصف كرم هرم بن سنان:
فلو لم يكن في كفه غير نفسه
لجاد بها فليتق الله سائله
فالجود والكرم صفتان من صفات إبراهيم الخليل وهرم بن سنان هنا يمثل المثل الأعلى في الجود ولذا يحرص الشاعر على عدم إحراج الممدوح، ويوصي الناس بالتقوى ، والتقوى من صفات إبراهيم الخليل عليه السلام وكذلك قوله يصف هرم بن سنان:
حزما وبرا للإله وشيمة
تعفو على خلق المسيء المفسد
فالممدوح هنا يمتاز أول ما يمتاز بالحزم، والحزم يعني القدرة كما أنه يمتاز بالبر، والبر يعني الطاعة لله والعطف على الضعفاء وعلى بني الإنسان قاطبة ، والشيمة هي مركز الأخلاق الحميدة والعفو على المسيء واحدة منها.
كذلك قوله يصف ممدوحه هرم:
تقي نقي لم يكثر غنيمة
بنهكة ذي قربى ولا بحقلد
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
ولكن منه باقيات وراثة
فأورث بنيك بعضها وتزود
تزود إلى يوم الممات فإنه
ولو كرهته النفس آخر موعد
الأبيات تؤمن بالقدر فالموت قدر لا مفر منه والحمد الذي يكيله الناس لبعضهم بعضا لا يخلد أحدا، ولكن هناك ذكرى حميدة تبقى بين الناس، هذه الذكرى هي المروءة التي يتحلى بها الممدوح، والنقاء والتقوى صفتان من هذه المروءة العربية، أو إن شئت قل أن المروءة هي دين الحنيفية والمروءة لا تقتصر على الكرم والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل إن النجدة والشجاعة والعفة والعلم وقول الحق هي قيم من هذه المروءة فالمروءة مركز الأخلاق الحنيفية.
وكان الشعر هو شكل التعبير عن هذه الذكرى الحميدة.
والحكمة عند زهير لا تقف عند حدود أخلاقه الحميدة ومروءته الحنيفية وحسب، بل نجدها تصل إلى عمق الأعراف والشرائع كما في قوله:
وأن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
فالبيت أعلاه يجسد موقفه من الأعراف التي أقرها الشرع ، فكل دعوى لا بد أن تكون مدعومة بالبينة مالم فالاحتكام إلى القضاء، وإلا فهي دعوى باطلة، وهذه من الأبيات التي كان غالبا ما يعجب بها عمر ابن الخطاب بقوله: (لو أدركته لوليته القضاء لحسن معرفته ودقة حكمه).
كذلك كانت حكمة زهير نابعة من تجربته الحياتية وبالذات تجربة الحروب التي دارت رحاها في الجزيرة العربية أو في (الرقمتين) والرقمتين ديار كثيرة تمتد من البصرة وحتى المدينة يثرب، فمن هذه الحروب كانت حكمته في المعلقة كما في قوله:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا أبا لك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وكائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
هذه الحكمة التي ينهي بها المعلقة تكاد تكون ثمرة تجربته الحياتية ممتزجة بعقيدته الحنيفية.
وكذلك نجد عنده أبياتا تجسد فراسته بالناس ومواقفهم الدالة على أحوالهم النفسية كما في قوله:
متى تك في صديق أو عدو
تخبرك الوجوه عن القلوب

زهير شاعر الحكمة
> قال صاحب الجمهرة عن زهير (أنه أشعر العرب) رغم تقدم امرئ القيس والنابغة عليه فالتقدم لا يعني غير الريادة الشعرية كما هو معروف عن امرئ القيس إنه ابتدع أشياء سار الشعراء عليها، ومعروف أن الريادة الشعرية غير الإجادة والإتقان وغير التمكن من هذا الفن أو ذاك.
لكن عبارة (أشعر العرب) لا تفيد حكما جماليا وإنما هي محكومة بالإعجاب.
وقال جرير (كان زهير أشعر أهل الجاهلية، والفرزدق نبعة الشعر، والأخطل يجيد مدح الملوك ويصيب وصف الخمر ، فقالوا له وماذا تركت لنفسك يا جرير…؟ قال أنا نحرت الشعر نحرا) (راجع المعلقات العشر للشنقيطي أخبار زهير) وكلام جرير هو الآخر لا ينطوي على أي حكم جمالي بل هو كلام ينطوي على المفاضلة التي لا تخلو من العصبية أو على الإعجاب في أحسن الأحوال.
وقال بلال بن أبي بردة الأشعري وكان حينها واليا على البصرة وكان أعلم العرب بالشعر في عصره ، قال: (السابق هو الذي سبق في المدح وهو زهير في قوله يمدح بني سنان ابن أبي حارثة ألمري:
وما يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطى إلا وشيجه
وتغرس إلا في منابتها النخل
فأما المصلي فهو النابغة في قوله يمدح النعمان ابن المنذر:
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
هذا الحكم ينطوي على المفاضلة وهي مفاضلة صادقة وإن لم يقدم بلال تعليلاته على جودة شعر زهير وتفوقه على النابغة ، لكن السابق يعني المتفوق في الشعر والمصلي هو التالي للسابق.
وقال يونس ابن حبيب النحوي: (أشعر الناس زهير إذا رغب) والرغبة هنا لا تعني طلب المال كما هو حال النابغة أو الأعشى وإنما تعني ا7لاقتناع ، فالاقتناع بالموقف أو بالمديح أو بالهجاء، هذا الاقتناع هو الذي يقف خلف شعر زهير بن أبي سلمى، لكن هذا الحكم الجمالي ناقص، لأنه لم يقم على استقصاء حقيقة المديح أو الهجاء في شعره وإنما جاء هكذا ارتجالا.
وفي المعلقات العشر قال عمر ابن الخطاب: زهير شاعر الشعراء لأنه كان لا يعاظل في الكلام ولا يتتبع وحشي الكلام وكان لا يمدح الناس إلا بما هم فيه.
وكلام عمر هذا ينطوي على حكمين: حكم جمالي وهو عدم المعاظلة أي البيان ، وحكم أخلاقي وهو الصدق الشعري.
لكن الحكم الجمالي الصحيح نجده عند محمد ابن سلام الجمحي في كتابه (طبقات الشعراء) فقد قال ابن سلام الجمحي: (كان زهير أحصنهم شعرا، وأبعدهم عن سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة، وأكثرهم أمثالا) وهذه هي خصائص شعر زهير بن أبي سلمى: (الحصانة، والسمو، والإيجاز، والمبالغة، والحكمة)




بارك الله فيك أختي على الموضوع القيم والمفيد
نترقب المزيد
بالتوفيق




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.