ما هي الرياضيات؟ محاولة تعريف:
يبدو للوهلة الأولى أن الرياضيات مختلفة عن سائر العلوم، فهي تشكل عالمًا مستقلاً وأصيلاً يرتكز على العقل النظري المحض من دون اللجوء إلى الواقع الخارجي أو إلى المختبرات والأدوات سواء البسيطة أو المعقدة منها. ولقد ذهب البعض إلى حدّ القول أنّ عالِم الرياضيات لا يحتاج إلا إلى لوح أسود وطبشورة. من جهة أخرى علينا أن نلاحظ صعوبة التعريف بالرياضيات بسبب فروعها المتنوعة وموضوعاتها وميادينها الغنية.
مع ذلك يمكن الأخذ بتعريف ديكارت للرياضيات على أنها علم النظام والقياس. والواقع أنه لا يمكن الكلام عن رياضيات واحدة بعينها. ولكن كل كلام على الرياضيات لا بدّ وأن يشتمل على كافة فروعها. فالحساب هو علم الكمّ المنفصل أو علم العدد، والجبر هو الحساب التعميمي، والهندسة هي علم الكم المتصل أو الأحجام القابلة للقياس، ومنذ القديم كان للرياضيات شأن عظيم إذ أن فيثاغورس استطاع أن يوحد العالم في نظام رياضي وحسابي وأشار أفلاطون من جهته إلى أهمية الرياضيات من خلال ما كتبه على مدخل مدرسته الأكاديمية: من ليس برياضي لا يدخل هنا.
I- أصل ومصدر الرياضيات
ما هو أصل ومصدر المفاهيم الرياضية؟ هل هذه المفاهيم متأتية من التجربة الحسية أم أن مصدرها هو العقل المحض؟
أ- النظرية التجريبية:
إن نزعة التجريب تعتمد على المذهب القائل بأولية التجربة وأسبقيتها. فالحقيقة ليست مستقلة عن التجربة بل هي تابعة لها ونابعة منها. والمفاهيم الرياضية هي حقائق مستمدة مباشرة من التجربة الحسية ومن الملاحظة. وفي هذا الصدد كتب جون ستيوارت ميل (J.S.Mill) أن النقاط والخطوط والدوائر الموجودة في تفكيرنا ليست سوى نسخًا من الخطوط والنقاط والدوائر التي عرفناها بالتجربة وخبرناها بالحس. فالوقائع والموضوعات هي التي مهدت لظهور المفاهيم الرياضية، فمن الأفق استوحى الفكر الرياضي مفهوم الخط، ومن الشمس صدرت فكرة الدائرة، وعن جذع الشجرة ولد مفهوم الأسطوانة،. كذلك فإن فكرة العدد جاءتنا من خلال إدراكنا لتعددية الموضوعات المحسوسة.
وبالرغم من أن المفاهيم الرياضية تتبدى مثالية، فإننا نلاحظ أنها تنطبق على الوقائع وعلى التجربة. فالرياضيات تستخدم علميًا لقياس الظواهر الفيزيائية. ولا يمكن لأحد أن يماري في التشابه الموجود ما بين المفاهيم الرياضية من جهة وما بين الوقائع التجريبية من جهة أخرى. وهذا التطابق ما بين الترميز الرياضي والواقع فسّره أتباع التجريب بأسبقية التجربة على الواقع، وبكون المفاهيم الرياضية نسخًا عن المعطى الحسي والتجريبي، وهذا ما رفضته النظريات المثالية التي قدّمت الفكر على الواقع.
ب- النظرية المثالية (العقلية)
يرى بعض الفلاسفة المثاليون أن المفاهيم الرياضية هي مبادئ قَبْلية (a priori)سابقة على التجربة ومستقلة عنها، فالعقل هو الذي ينتجها بغضّ النظر عن الوقائع. ويعتقد أفلاطون بوجود عالم مثالي أي عالم من الأفكار والجواهر. إنه العالم الحقيقي حيث تسعى الموضوعات الواقعية الحسية إلى محاكاته ومماثلته.
ويقول غوبلو (Goblot) إذا كانت موضوعات العلوم التجريبية محكومة بقوانين تجريدية تستهدف تفسير ومعرفة الواقع، فإن الرياضيات من جهتها، هي معرفة مستقلة عن الوقائع، وليست بحاجة لأن تكون موضوعاتها واقعية لكي تكون صحيحة وواضحة. بهذا الشكل، فإن المكان الهندسي هو امتداد عقلاني محض وليس امتدادًا محسوسًا. فالخط الذي نرسمه وكذا الدائرة، لا تتمتع بالكمال أما فكرة الخط وفكرة الدائرة فهما تابعتان لعالم الأفكار والجواهر، وهما أفكار رياضية كاملة حسبما يدعي أفلاطون.
فالمفهوم الرياضي هو الفكرة المكتملة التي يحتذي عالم الرياضيات حذوها ويشتغل في عملياته من خلالها. هذا يعني أن المفاهيم الرياضية موجودة في عالم مثالي محلق ومكتمل، ثم تأتي الموضوعات والأشكال الواقعية لتستوحي منها طابعها الرياضي. وكما تحدث أفلاطون عن عالم مثل يشتمل على أفكار رياضية، فقد اعتبر كانط (E. Kant) المكان شكلاً قبليًا للحواس، والكمية مقولة قَبْلية من مقولات الذهن. فالمفاهيم الرياضية هي من طبيعة العقل ذاته فهي عامة وضرورية وثابتة بعكس الوقائع الاختبارية.
ج- النظرية العملانية:
يعود الخطأ في النظريتين السابقتين إلى إهمال الجانب البنائي العملي (Le caractère opératoire) في الفكر الرياضي. فالرياضيات ليست انعكاسًا سلبيًا للوقائع المحسوسة والتجريبية ولا هي انعكاس للفكر المجرد. إنها تُمثل النشاط المبدع في الفكر الإنساني ومن المستحيل أن نفصل العمليات الرياضية عن الفكر أو عن التجربة. فالاتجاه العقلاني يغلط بجعله المفاهيم الرياضية محلقة في عالم مثالي منقطع عن الواقع. فالرياضيات ليست علومًا عقلية خالصة بل هي متصلة بأصلها الاختباري وبمطابقتها للعمليات الرياضية. فالمفاهيم والبديهيات الرياضية، وإن كانت ذات طابع عقلي وإبداعي، إلا إنها وثيقة الصلة بأصلها الحسي.
وبالفعل فإن العمليات الرياضية النظرية كانت في الأصل تقنيات عملانية محسوسة. فالهندسة كانت عملية مسح للأراضي بطريقة القسمة التربيعية. والأعداد كانت مرتبطة بأعضاء الجسم وخصوصًا الأيدي والأصابع. فالأعداد الرومانية هي على شكل الأصابع المنفرجة V، أو المتوازية III، أو المتقاطعة X.
كما أن حساب البيع كان يعتمد قديمًا على مماثلة كميات الأغراض بكميات من الحصى، فقد كانت كميات الحصى شواهد محسوسة على عمليات البيع بالحصى.
بهذا الشكل فإن الكائنات الرياضية ليست لا أشياء مدركة بالحس ولا أفكار متأملة بالنظر العقلي. ولكنها أدوات تقنية وعملانية، أي أدوات صالحة لإجراء العمليات.
كذلك فإن مفاهيم العدد، لها أصل تقني وعملي شبيه تمامًا بما رأيناه عن الهندسة المتأتية من مسح الأراضي. فالعدد بدأ وثيق الصلة بالموضوعات المادية التي نحسها ثم انطلقت العمليات نحو الطابع التجريدي التعميمي. والقيمة التي تتخذها الأعداد في عالم العمليات الرياضية تتأتى من صلاحيتها للعمليات وليس من مصادرها سواء منها المثالية أم الواقعية.
فالعدد صفر على سبيل المثال لا يمثل شيئًا على أرض الواقع، مع ذلك لا غنى عنه في العمليات الرياضية. كذلك هو الأمر بالنسبة للأعداد السلبية (nb. négatives) والكسور والأعداد المتخيلة، فهي جميعًا تمتاز بقدرتها على إجراء العمليات الرياضية.
II – البرهنة:
البرهنة حسب لايبنتز هي طريقة منطقية، من خلالها، تصبح قضية من القضايا ذات طابع يقيني. وفي القديم كان القياس الأرسطي نموذجًا للبرهان الضروري لأنه يؤمن مطابقة كاملة بين النتيجة والمقدمات، فهو نموذج للبرهان ألحشوي.
وإضافة إلى هذا البرهان الأرسطي الاستدلالي فقد وجد برهان آخر عند أرسطو سُمِّيَ بالاستقراء، وهو نموذج للبرهنة الخصبة، لكنه لا يوفر الضرورة واليقين، بل إنه نقلة غير يقينية من الأجزاء إلى الكل فهو يفتقر بالتالي إلى الضمانة المنطقية.
أما البرهان الرياضي فهو يحقق في الوقت ذاته الضرورة المنطقية الاستدلالية والخصوبة الاستقرائية. فهو في الأساس برهان حشوي (تكراري) يعتمد الاستدلال ليوفر مماثلة كاملة داخل القضايا ذاتها، وبينها وبين المقدمات. مع ذلك فإن البرهان الرياضي ليس عبارة عن استدلال بسيط أو قياس إثباتي على النمط الأرسطي. فالقياس وإن كان ضروريا بالإطلاق، إلا أنه تكراري ولا يضيف شيئًا إلى معرفتنا.
فعندما نستنتج بالقياس ألإثباتي أن سقراط فانٍ = (مائت)، فإن هذه النتيجة هي أساسًا متضمنة في المقدمة العامة الكبرى: كل إنسان فان.
فالقياس الأرسطي الذي يسمى استدلالاً أو استنساخًا ما هو إلا برهان عقيم = (لا ينتج معلومات جديدة)، فهو ينتقل من العام (المقدمات الكبرى) إلى الخاص (النتيجة) حيث ينقطع الاستنتاج.
إن القياس الاستدلالي الأرسطي يعتمد فقط على علاقة التضمن أو الاشتمال. أما البرهنة الرياضية المعروفة بدقتها وخصوبتها فهي على خلاف القياس الإثباتي مبدعة وخلاقة لأنها تصوغ علاقات أكثر تنوعًا من علاقة التضمن والانتماء.
فمسألة التكرار والتماثل في العلوم الرياضية ليست واضحة بل ينبغي أن نعمل على إيجادها عبر بعض الاستدلالات والمماثلات، وهذا ما يضفي على الرياضيات طابع الخلق والإبداع وطابع البنائية، خاصة لأن المماثلات لا تبرز إلا نتيجة سلسلة من الاستبدالات، وكل استبدال أو تدخل يدل على خاصية الإبداع التي يتمتع بها الفكر الرياضي.
الواضح إذًا أن المماثلات الرياضية تخترع اختراعًا. ومن الأمثلة على ذلك عندما نتساءل رياضيًا عن مجموع زوايا المتعدد الأضلاع (الـ Polygone) فإن الفكر الرياضي يعمل على إنشاء وبناء مثلثات داخل هذا المتعدد الأضلاع لكي نحصل على مجموع زواياه. وفي هذه الإمتدادات البنائية دلالة على أن العمليات الرياضية هي إبداعية وخلاّقة.
يلاحظ غوبلو أن القياس الإثباتي وكذلك الاستدلال الأرسطي ينطلقان في الأغلب من الخاص إلى العام. أما البرهان الرياضي فهو برهان تعميمي. فعندما أعرف مجموع زوايا المثلث يمكنني أن أعرف بالبرهنة الرياضية مجموع زوايا المتعدّد الأضلاع. فمن خلال حالة خاصة أنطلق لمعرفة حالات أخرى عبر الربط أو الإبدال وما شابه من العمليات الرياضية. فالبرهنة الرياضية، بالرغم من كونها استدلالية وحشوية، إلا أنها تستخدم بعض البناءات الجديدة من مثل المبادرة إلى إجراء إمتداد في رسم هندسي أو إضافة رموز في معادلة بهدف الوصول إلى حل جديد.
وإضافة إلى هذا الفكر البنائي يذهب “بوانكاريه” إلى حدّ الاعتقاد بفاعلية الحدس في البرهنة الرياضية، فيقول أن الحدس هو الأداة الأكثر ملاءمة للإبداع في الفكر الرياضي وسواء أكانت حسية أم عقلية فإن الحدوس، أي المعارف المباشرة الفجائية، لها مكانتها في الفكر الرياضي. ففيما وراء الموضوعات الحسية والأشكال يبدو أن الأعداد وكذلك الأشكال المنطقية الصورية هي محصّلة ضرورية لعمل الحدس ولعمل التخيل الخلاق.
مع ذلك علينا أن نؤكد أن البرهنة الرياضية لا تعتمد حصرًا على الحدوس، بل هي مضطرة لاستخدام الطرائق المنطقية، لأن المنطق هو الأداة الرئيسية في عمليات البرهنة وهو الطريق الوحيد للحصول على اليقين الرياضي.
ومن أساليب البرهنة المنطقية المتبعة في الرياضيات الأسلوب التحليلي الذي يعمل على تحليل المسائل إلى معطيات وقضايا بسيطة يستطيع الرياضي أن يردها إلى المسلمات والمنطلقات أي المبادئ الأولى الرياضية التي سبق وأقرّ بها.
وهذا الطريق التحليلي والامتدادي نحو المسلمات ليس دائمًا مسلكًا مباشرًا، بل إن التحليل الرياضي يتخذ مسلكًا معقدًا، إذ هو يَعْمدْ في الكثير من الأحيان إلى الطرق غير المباشرة، من مثل البرهنة بالخلف أي الاستدلال على صحة القضية من خلال تبيان فساد نقائضها.
أخيرًا وإذا ما تأملنا البرهنة الرياضية التتابعية، نكتشف أن في التفكير الرياضي نوعًا من الاستقراء أطلق عليه بوانكاريه اسم التفكير بالشمول لأنه يقوم على تعميم نتيجة من خلال بعض الحالات الخاصة المتتابعة. ولكن “غوبلو” يرفض اعتبار التفكير بالشمول أو الاستقراء برهانًا يعتمده الفكر الرياضي.
مثال عن البرهان التتابعي: (Le raisonnement par récurrence)
هذا برهان استقرائي رياضي يقيني كما يرى “بوانكاريه” يستعمل في الحساب والجبر، ويقوم على انسحاب خاصية مُثْبَتَةٍ في حالات متناهية على سلسلة غير متناهية. فإذا أردنا البرهنة أن (1 + أ)ن > (1 + أن) علمًا أن “أ” هو عدد إيجابي و “ن” عدد أكبر من الواحد. فإننا نبرهن أولاً أن هذه المعادلة إذا كانت صحيحة لعدد “س” من العدد “ن” فتكون صحيحة بالضرورة لعدد (س + 1) وهكذا إلى آخر السلسلة.
وبالاستقراء نضع أن هذه العلاقة صحيحة لكل قيم “ن” المتزايدة على التوالي إلى ما لا نهاية.
لكن “غوبلو” يرى إن وثوق هذا البرهان ليس تابعًا للاستقراء، بل هو مرتكز إلى القضية العامة المبرهنة في البداية والتي تعطينا الحق بالتعميم، فهو إذًا سلسلة من الاستدلالات الخفية المتتالية. نخلص من ذلك إلى القول أن البرهنة الرياضية ذات الطابع الخلاق هي برهنة تتبع الطريقة الفرضية الاستدلالية.
III – التعاريف – المسلمات – النظم الرياضية.
أ- التعاريف:
تختلف التعاريف الرياضية عن التعاريف الطبيعية. فهذه الأخيرة هي مجرد وصف لأشياء موجودة في الطبيعة وسابقة على التعاريف.
إن العالِمْ الطبيعي عندما يعرف أي نوع من الحيوانات، فهو لا يُوجِدْ هذا النوع، بل إنه يكتشفه، ويصفه ويصنفه بالنسبة للأنواع الأخرى. أما الحقائق الرياضية، كالدائرة مثلاً، فلا وجود لها في الطبيعة، بل إنها من إبداع العقل ذاته. فالدائرة الهندسية ليست شكلاً مستديرًا محسوسًا، بل هي بالتعريف الشكل الكامل الحاصل من حركة نقطة في سطح على بعد واحد من نقطة أخرى ثابتة هي المركز. فالشكل المستدير يوحي بالدائرة، لكن العقل هو الذي يبدعها. كما أن هناك مفاهيم رياضية مثل الصفر والأعداد التخيّلية لا وجود لها في الواقع، بل هي نتيجة عمل ذهني صرف. وهناك مثل آخر على هذا الإبداع العقلي. فالصفة اللامتناهية للأعداد متضمنة في قانون تكوينها. فتكون لا نهائيتها عملاً استنتاجيًا وليس استقرائيًا.
ب- المسلّمات:
هي أقاويل رياضية لا يُبَرْهَن عليها، ويُطلب منا أن نقبلها كمسلّمات فقط لتحقيق البناء الرياضي: مثل مسلّمة اقليدس بأننا من نقطة خارجة عن خط مستقيم في سطح ما، نستطيع أن ننشئ خطًا واحدًا موازيًا لهذا الخط. ونحن نستنتج من هذه المسلّمة ما يترتب عليها من قضايا دون أن تكون هي مستنتجة من غيرها.
لكن هذه المسلّمات الاقليديسية تبدلت تبدلاً جذريًا مع ظهور الهندسات اللاإقليديسية، فقد حاول العلماء أكثر من مرة برهنة مسلّمة المتوازي، ولكن دون جدوى. وتكررت المحاولات في القرن التاسع عشر مع علماء أشهرهم “لوبتشفسكي”. وتركزت محاولة هذا الأخير على برهان الخُلْف = (Raisonnement par l’absurde). فافترض أننا نستطيع من نقطة خارجة عن خط مستقيم في سطح ما أن ننشئ عددًا لا متناهيًا من المتوازيات. واستطاع أن يستنتج من هذه الفرضية اللاإقليديسية سلسلة من القضايا المنسجمة والمختلفة عن قضايا اقليدس والمساوية في منطقية استنتاجيتها لهندسة اقليدس. من هذه القضايا اللااقليديسية أن مجموع زوايا المثلث يساوي أقل من زاويتين قائمتين. ففي هندسة لوبتشفكي يكون المكان ذا انحناء سلبي، ويكون مجموع الزوايا أصغر كلما كانت مساحة المثلث أكبر.
وقام “ريمان” بعمل مماثل عندما افترض أننا من نقطة خارجة عن خط مستقيم في سطح ما لا نستطيع أن ننشئ أي متواز لهذا الخط. ورفض أيضًا مقولة اقليدس بأننا لا نستطيع أن ننشئ بين نقطتين سوى خط واحد. وتوصل بالاستنتاج الرياضي إلى نظام هندسي مختلف عن النظام الاقليديسي. ونظام لوبتشفسكي. وهو نظام منسجم ومتكامل، وقضاياه مختلفة عن قضايا إقليدس ولوبتشفسكي. ومنها أن مجموع زوايا المثلث يساوي أكثر من زاويتين قائمتين. ويمكن تصور هذا النظام الهندسي إذا اعتبرنا المكان كرويًا بانحناء إيجابي. فكل دوائر هذه الكرة تكون متقاطعة لأننا نستطيع أن ننشئ بين نقطتين أكثر من خط.
فمن الممكن إذًا الوصول إلى قضايا رياضية غير متناقضة انطلاقًا من فرضيات غير إقليديسية. هكذا تفقد فرضية إقليدس الخاصة بالمتوازيات صفة الضرورة، على اعتبار أن نقائضها مقبولة ومنتجة في الوقت ذاته. وفي هذا الموقف إنكار لرأي “كنط” القائل بأن المكان الاقليديسي هو الشكل الضروري والعام في الذهن الإنساني. وهكذا تفقد هندسة إقليدس صفة الإطلاق وتصبح مجرد حالة خاصة بالمكان المستوي المعدوم الانحناء (Courbure nulle).
مع ذلك فإن تطور الرياضيات لا يدعونا إلى إنكار الحقائق الرياضية السابقة، بل إلى اعتبارها حالة ممكنة من مجموع أوسع. فالتطور هنا في مجال الهندسة كان نتيجة تحويل ثابتة المكان المستوي إلى متغيرة يمكن أن تأخذ أشكالاً أخرى حسب تصوّرنا لمفهوم الفضاء.
وهكذا لم يعد في الرياضيات مسلّمات يصح اعتبارها كحقيقة مطلقة. فقد ولّى زمن الإطلاقيات بعد ولادة الهندسات اللاإقليديسية وأصبحت الحقيقة نسبية تابعة لنظام هندسي معيّن.
ج- البديهيات Axiomes والنظام الرياضي Axiomatiques
إن ما سبق يؤكد لنا أن التمييز التقليدي بين المسلّمات Postulats والبديهيات Axiomes لم يعد مقبولاً. فقد استقر الرأي على أن المنطلقات الرياضية هي فرضيات أولى تابعة لنظام أكسيومي. فالرياضيات شأنها في ذلك شأن سائر العلوم العلمية تنطلق من نظام متحدد له فرضياته وعناصره الخاصة. وكما أن في الفيزياء فرضيات مثل مبدأ القصور الذاتي ومبدأ تساوي الفعل وردّة الفعل، فكذلك فإن لكل بناء رياضي منطلقاته الخاصة.
نخلص من ذلك إلى أن البديهيات التي اصطلح على تسميتها في الرياضيات أكسيوم لم تعد كما كانت من قبل إلزامات منطقية عامة ومقبولة في كل مجالات العلوم، بل صارت بدورها فرضيات صالحة فقط في مجال معين. فالقول مثلاً أن “الكل أكبر من الجزء” يعتمد على تعريف محدد للكمية. فهو قول صحيح في مجال الكمية المتناهية فقط، أما في مجال الكمية اللامتناهية، فإن السلسلة اللامتناهية للأعداد الطبيعية تشتمل أيضًا على سلسلة لا متناهية من الأعداد المزدوجة. فههنا إذًا سلسلتان لا متناهيتان ومتساويتان مع أن واحدة منهما هي قسم من الأخرى.
هكذا فقدت البديهيات أوالأكسيومات صفة الإطلاق وصارت بدورها مجرد فرضيات عملانية في مجال محدد، وصارت الرياضيات ذات طابع افتراضي استنباطي. فتكون أي قضية رياضية صحيحة فقط بالنسبة للفرضيات التي انطلقت منها، وتكون قضية مجموع زوايا المثلث مختلفة بين هندسات إقليدس ولوبتشفسكي وريمان. بالتالي فإن الفرضيات الرياضية هي أقاويل ننطلق منها لإقامة نظام رياضي متكامل.
وقد استطاع العالم “هيلبرت” وضع قواعد يحدد فيها ماهية النظام الرياضي. فالنظام الرياضي يجب أن تنطبق عليه الشروط التالية:
1- أن لا تكون منطلقاته وأكسيوماته مستنبطة من بعضها أو من أي قضية خارج النظام المفترض.
2- أن تكون أقاويله ومنطلقاته متلائمة غير متناقضة فيما بينها.
3- أن تكون أكسيوماته مشبعة، مكتفية بذاتها للحصول على عملية استنباطية كاملة.
4- أن تكون منطلقاته وفيرة الخصوبة.
إن هذا النمط من التفكير الرياضي رفع الرياضيات إلى مستوى من التجريد جعل القضايا الرياضية مجرد علاقات ضرورية. وقد أخذ هذا النمط من الفكر الرياضي اسم “المنطقية – أو – الشكلية”. لأنه يهتم بالتسلسل المنطقي أي بالشكل دون المضمون. وقد طبق “راسل” المنهج المنطقي في علم العدد فساوى تمامًا بين الرياضيات والمنطق معتبرًا الرياضيات قمة نضوج علم المنطق.
IV – قيمة الرياضيات = (دور الرياضيات في المعرفة):
سؤال: هل الرياضيات هي علم مستقل بذاته؟ أم أنها فقط لغة للعلم؟
إن التقدم الهائل في العلوم الرياضية والمصداقية العالية التي بلغتها جعلت منها مثالاً يحتذى في العلوم الأخرى. فإلى أي حد تستطيع العلوم الاختبارية الأخذ بالأساليب الرياضية؟
إن علوم المادة تسعى إلى مقاربة منهج الاستنباط وإلى استعمال لغة الرياضيات، وهذا المشروع العلمي مردّه إلى أن الرياضيات مبنية على مجرد قوانين وتتميز بالتالي بوثوق منهجها الافتراضي الاستنباطي وبدقة لغتها. وقد تبنى الفيثاغوريون قديمًا نظرية كوسمولوجية رياضية إلاّ أن محاولتهم فشلت عندما امتزجت باعتبارات فلسفية، وهذا ما أفضى إلى حقبات طويلة من الانحطاط العلمي امتدت من العصور اليونانية وحتى بدايات النهضة الأوروبية.
فخلال هذه الحقبات القديمة والوسيطية، ظلت الرياضيات مجالاً علميًا مغلقًا على نفسه لا علاقة له بسائر العلوم. فالرياضيات حسب التعريف الأرسطي هي المباحث المتخصصة بدراسة الكم، أما الفيزياء فهي المعارف التي تبحث في الكيف، أي في الظواهر الطبيعية المحسوسة.
وبالفعل فقد شكلت بدايات العصور الحديثة مفترقًا حاسمًا في القيمة المعرفية للعلوم الرياضية. إذ لم تعد الرياضيات منفصلة عن سائر الاهتمامات العلمية، بل أصبحت بحق اللغة المنضبطة للتعبير عن الظواهر المادية والفيزيائية.
وإبان القرن السابع عشر كان غاليله ونيوتن من الأوائل الذين خطرت لهم فكرة استخدام الرياضيات كلغة للفيزياء، وذلك بهدف ضبط معارفنا عن العالم المادي بلغة دقيقة وصارمة. ففي كتابه الضخم “مبادئ الرياضيات في الحياة الطبيعية”، أي في مجال الفيزياء يعبر نيوتن بوضوح عن هذه الثورة المعرفية والانقلاب الجذري في مسار العلم. فقد استطاع أن يعبر عن ظاهرة سقوط الأجسام برموز وعلاقات جبرية.
وبالفعل فإن الكثير من علوم المادة قد استطاعت أن تصوغ قوانينها باللغة الرياضية. فغاليله استخدم لغة حساب التفاضل للتعبير عن قوانين التسارع في حركة الأجسام الساقطة. وديكارت عبر بلغة حساب المثلثات عن قوانين انعطاف الضوء.
لكن هذا الاستخدام للرياضيات لا يعني أنها انقلبت أساسًا أو ركيزةً للكشوف العلمية. فهي تستطيع أن تكون لغة معبرة عن الظواهر، لكنها لا تستطيع أن تحلّ محلّ المنهج الاستقرائي والطريقة الاختبارية لاستنباط القوانين.
فالواضح إذًا أن علم الفيزياء يبقى علمًا استقرائيًا يعتمد في الأساس على مراقبة الظواهر الطبيعية واختبارها، ويستطيع في أقصى حدّه التعبير عن القوانين بلغة رياضية، فتكون الرياضيات في مجال علوم المادة لغة تعبير أكثر منها منهج اكتشاف.
بالتالي، فإذا كانت الفيزياء لا تستطيع أن تصل إلى الخصوصية الرياضية الكاملة لأن موضوعها في الأساس هو الكيفية وليس الكمية، لكنها تستطيع على الأقل الأخذ بلغة الرياضيات.
وكما الفيزياء فكذلك هو شأن علمي الميكانيك والفلك، فهما لا يجدان صعوبات بالغة في اتباع المنهج الرياضي باعتبارهما في الأساس من العلوم الرياضية المحسوسة. ولذلك استطاع كيبلر التعبير عن قوانينه بلغة رياضية عندما كشف عن المسار الإهليليجي للكواكب.
ومنذ هذه الانطلاقة الأولى لاستخدام اللغة الرياضية في علوم المادة، أصبحت كل المعارف العلمية تتوجه بخطى سريعة لاستخدام التعبير الرياضي من قياس وعلاقات كمية ورسومات بيانية وما شابه… وقد انسحب هذا الأمر على مختلف العلوم حتى طاول البيولوجيا وعلوم الإنسان.
فالبيولوجيا استخدمت الحساب الاحتمالي في علم الوراثة. وعلم الاجتماع والعلوم الاقتصادية استخدمت الإحصاءات. وحتى علم النفس حاول أن يلجأ في بعض الحالات إلى التعبير الرياضي.
وفي كل الأحوال فإن اللغة الرياضية توفر للقوانين العلمية مزيدًا من الدقة، إلاّ أنها تصادف صعوبات كثيرة في مجال العلوم الإنسانية نظرًا لتعقيد الواقع الإنساني وخصوصياته الدقيقة. وباختصار فنحن لا نستطيع استعمال المنهج الرياضي الاستنباطي في سائر العلوم إلاّ إذا سلبنا الواقع كثيرًا من مضمونه.
فعندما يكون مجال الدراسة وموضوعها هو الإنسان، أي الكائن الحر والعاقل والمريد، فإن عملية ضبط الحسابات الرياضية وخضوعها لسيرورة منطقية ضرورية، ليست دائمًا عملية مضمونة النتائج. وهذا يعني أن الأداة الرياضية التي تصدق بدقة على علوم المادة تفقد الكثير من صلاحيتها عندما يختص الأمر بعلوم الحياة وبالعلوم الإنسانية. فاللغة الرياضية التي تصلح للتعبير عن الكميات، تعجز عن التعبير عن حالات الوعي وعن الوقائع الإنسانية المعاشة، مما يؤكد أن الرياضيات لن تستطيع أن تصبح اللغة الوحيدة التي تعبر بها الثقافة الإنسانية عن نفسها.
إن فرضية تحويل الكون برمته إلى معادلة رياضية كبرى فيبقى حلمًا راود أذهان الفلاسفة والعلماء مثل “ديكارت” و “ليبنتز”. لكن هذا الهدف الكبير يبقى مجرد فرضية دونها صعوبات وتجاذبات علمية وفلسفية.
نسال الله ان يجعل عملك هذا في ميزان حسناتك وان يستفيد منه كل من هو محتاج له
تقبل مروري
اختك وزميلتك هناء
بارك الله فيك أخي الكريم ومنحك الصحة والعافية وحفظك لأهلك وذويك . آمين يارب العالمين | ||