التصنيفات
المواسم الإسلامية وفضائل الأيام والشهور

فرضية الحج وشروطه

فرضية الحج وشروطه

الحمد لله الذي فرض الحج على عباده إلى بيته الحرام ، ورتب على ذلك جزيل الأجر ووافر الإنعام ، فمن حج البيت ، فلم يرفث ، ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه نقيا من الذنوب والآثام والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من صلى ، وزكى ، وحج ، وصام ، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام ، وسلم تسليما .
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى ، وأدوا ما فرضه الله عليكم من الحج إلى بيته حيث استطعتم إليه سبيلا فقد قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا » . وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بني على هذه الخمس فلا يتم إسلام عبد حتى يحج ، ولا يستقيم بنيان إسلامه حتى يحج . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار ، فينظروا كل من له جدة ( أي غنى) ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين .
ففريضة الحج ثابتة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين عليها إجماعا قطعيا ، فمن أنكر فريضة الحج ، فقد كفر ، ومن أقر بها ، وتركها تهاونا فهو على خطر . فإن الله يقول بعد ذكر إيجابه على الناس : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } . كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه ، وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام ، وأركانه كيف يبخل بالمال على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو ينفق الكثير من ماله فيما تهواه نفسه ؟ وكيف يوفر نفسه عن التعب في الحج وهو يرهق نفسه في التعب في أمور دنياه ؟ وكيف يتثاقل عن فريضة الحج وهو لا يجب في العمر سوى مرة واحدة ؟ وكيف يتراخى ويؤخر أداءه وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه .
فاتقوا الله عباد الله ، وأدوا ما فرضه الله عليكم من الحج تعبدا لله تعالى ، ورضا بحكمه وسمعا وطاعة لأمره إن كنتم مؤمنين : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } . إن المؤمن إذا أدى الحج والعمرة بعد بلوغه مرة واحدة ، فقد أسقط الفريضة عن نفسه ، وأكمل بذلك أركان إسلامه ، ولم يجب عليه بعد ذلك حج ولا عمرة إلا أن ينذر الحج أو العمرة ، فيلزمه الوفاء بما نذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » . أيها المسلمون إن من تمام رحمة الله ومن بالغ حكمته أن جعل لفرائضه حدودا وشروطا لتنضبط الفرائض ، وتتحدد المسؤولية ، وجعل هذه الحدود والشرائط في غاية المناسبة للفاعل والزمان والمكان ، ومن هذه الفرائض الحج ، فله حدود وشروط ، ولا يجب على المسلم إلا بها ، فمنها البلوغ ، ويحصل في الذكور بواحد من أمور ثلاثة : إنزال المني أو تمام خمس عشرة سنة أو نبات العانة . وفي الإناث بهذه الثلاثة وزيادة أمر رابع ، وهو الحيض فمن لم يبلغ فلا حج عليه ولو كان غنيا لكن لو حج صح حجه تطوعا ، وله أجره ، فإذا بلغ أدى الفريضة ؛ لأن حجه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض ؛ لأنه لم يفرض عليه بعد فهو كما لو تصدق بمال ينوي به الزكاة قبل أن يملك نصابه . وعلى هذا فمن حج ومعه أبناؤه أو بناته الصغار ، فإن حجوا معه كان له أجر ، ولهم ثواب الحج ، وإن لم يحجوا فلا شيء عليه ولا عليهم .
ومن شروط وجوب الحج أن يكون مستطيعا بماله وبدنه ؛ لأن الله تعالى شرط ذلك للوجوب في قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } . فمن لم يكن مستطيعا ، فلا حج عليه ، فالاستطاعة بالمال أن يملك الإنسان ما يكفي لحجة زائدا عن حوائج بيته ، وما يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله وأجرة سكن لمدة سنة ، وقضاء ديون حالة ، فمن كان عنده مال يحتاجه لما ذكر لم يجب عليه الحج ، ومن كان عليه دين حال لم يجب عليه الحج حتى يوفيه . والدين كل ما ثبت في ذمة الإنسان من قرض وثمن مبيع وأجرة وغيرها ، فمن كان في ذمته درهم واحد حال فهو مدين ، ولا يجب عليه الحج حتى يبرأ منه بوفاء أو إسقاط ؛ لأن قضاء الدين مهم جدا ، حتى إن الرجل ليقتل في سبيل الله شهيدا ، فتكفر عنه الشهادة كل شيء إلا الدين ، فإنها لا تكفره ، وحتى إن الرجل ليموت ، وعليه الدين ، فتعلق نفسه بدينه حتى يقضى عنه . أما الدين المؤجل ، فإن كان موثقا برهن يكفيه لم يسقط به وجوب الحج ، فإذا كان على الإنسان دين قد أرهن به طالبه ما يكفي الدين ، وبيده مال يمكنه أن يحج به ، فإنه يجب عليه الحج ؛ لأنه قد استطاع إليه سبيلا ، أما إذا كان الدين المؤجل غير موثوق برهن يكفيه فإن الحج لا يجب عليه حتى يبرأ من دينه .
والاستطاعة بالبدن أن يكون الإنسان قادرا على الوصول بنفسه إلى البيت – أي مكة – بدون مشقة ، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى البيت ، أو يستطيع الوصول لكن بمشقة شديدة كالمريض ، فإن كان يرجو الاستطاعة في المستقبل انتظر حتى يستطيع ، ثم يحج ، فإن مات حج عنه من تركته ، وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير والمريض والميؤوس من برئه ، فإنه يوكل من يحج عنه من أقاربه أو غيرهم ، فإن مات قبل التوكيل حج عنه من تركته . وإذا لم يكن للمرأة محرم ، فليس عليها حج ؛ لأنها لا تستطيع السبيل إلى الحج ، فإنها ممنوعة شرعا من السفر بدون محرم . قال ابن عباس رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « " لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل ، فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : انطلق فحج مع امرأتك ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحج مع امرأته » مع أنه قد كتب مع الغزاة ، ولم يستفصل منه النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت امرأته شابة ، أو كان معها نساء أو لا ، وهو دليل على أن المرأة يحرم عليها السفر على أي حال وعلى أي مركوب طائرة أو سيارة إلا بمحرم وهو زوجها ، وكل من يحرم عليه نكاحها تحريما مؤبدا كالأب ، وإن علا ، والابن وإن نزل ، والأخ وابن الأخ ، وإن نزل وابن الأخت ، وإن نزل ، والعم والخال سواء كان ذلك من نسب أو رضاع ، وكأب الزوج ، وإن علا ، وابنه ، وإن نزل ، وزوج البنت ، وإن نزلت ، وكزوج الأم ، وإن علت إذا كان قد دخل بها . ولا بد أن يكون المحرم بالغا عاقلا ، فمن كان دون البلوغ لا يكفي أن يكون محرما ؛ لأن المقصود من المحرم حفظ المرأة وصيانتها وهيبتها ، وذلك لا يحصل بالصغير .
أيها المسلمون من رأى نفسه أنه قد استكمل شروط وجوب الحج ، فليؤده ، ولا يتأخر ، فإن أوامر الله ورسوله على الفور بدون تأخير ، والإنسان لا يدري ما يحصل في المستقبل ، وقد يسر الله ، وله الحمد لنا في هذه البلاد ما لم ييسره لغيرنا من سهولة الوصول إلى البيت ، وأداء المناسك ، فقابلوا هذه النعمة بشكرها ، وأداء فريضة الله عليكم قبل أن يأتي أحدكم الموت ، فيندم حين لا ينفع الندم . واسمعوا قول الله عز وجل : { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ }{ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }{ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ }{ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }{ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } . ومن حج على الوجه الشرعي مخلصا لله متبعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد تم حجه سواء كان قد تمم له ، أم لا أما ما توهمه بعض العوام أن من لم يتمم ، فلا حج له فهو غير صحيح ، فلا علاقة بين التميمة والحج .
وفقني الله وإياكم للقيام بفرائضه والتزام حدوده ، وزودنا من فضله وكرمه وحسن عبادته ما تكمل به فرائضنا ، وتزداد به حسناتنا ، ويكمل به إيماننا ، ويرسخ به ثباتنا إنه جواد كريم .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الضياء اللامع من الخطب الجوامع
لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.