بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
يقول الله –عز وجل- في سورة الطارق:
{ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}
ينبهُ -سبحانه- في هذه الآيةِ العظيمة على أن هذه السرائر ستبلى وتختبر يوم القيامة، ويظهر ما فيها من الإخلاص، والمحبة والصدق …أو ما يضادها من النفاق والكذب والرياء ….
وذلك في يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب، وهذا واضح من الآية وما قبلها وبعدها، حيث يقول الله عز وجل: { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } (الطارق:10) .
والقلب هو محطُّ نظر الله عز وجل، وعليه يدور القبول والرد،
كما قال صلى الله عليه وسلم : { إن الله لا ينظر إلى أجسـامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم } رواه مسلم .
والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله، وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة،
والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة، فإنها تفسد بفسادها أقوالُ العبد وأعماله، وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذًا بالله تعالى،…
ويوضحُ هذا الأمر قوله صلى الله عليه وسلم : { ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } رواه البخاري .
ويشرح هذا ما نقله صاحب الحلية- رحمه الله تعالى- عن وهب قوله:-
(ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإنَّ مثل العلانية مع السريرة، كمثل ورق الشجر مع عرقها، العلانية ورقها، والسريرة عرقها. إن نُخر العرق هلكت الشجرة كلها، ورقها وعودها..وإن صلحت صلحت الشجرة كلها، ثمرها وورقها، فلا يزالُ ما ظهر من الشجرة في خيرٍ ما كان عرقها مستخفيًا، لا يُرى منه شيء، كذلك الدين لا يزال صالحًا ما كان له سريرةً صالحة، يصدق الله بها علانيته.. فإنَّ العلانية تنفعُ مع السريرة الصالحة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياتها من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين…فإنَّ العلانية معها تزين الدين وتجمله، إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل ..
ويقول الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: (( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )) .. وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتهُ صالحة، كان عمله صالحًا ، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء..
ومن كانت سريرته فاسدة، كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته…
فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها..
وقال أيضًا في تفسـير هذه الآية : قوله تعالى : (( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )) أي تختبر….
وقال مقاتل: تظهر وتبدو، وبلوت الشيءَ إذا اختبرته، ليظهر لك باطنه، وما خفي منه…
والسرائر جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينهُ وبين عبده في ظاهره وباطنه لله..
فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتُختبر ذلك اليوم، حتى يظهر خيرُها من شرها، ومؤدِّيها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له…
قال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-:
(يُبدي الله يوم القيامة كل سرٍ فيكون زيناً في الوجوه، وشينًا فيها، والمعنى تختبر السرائر بإظهارها، وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب، والحمد والذم )
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
وقوله : {يوم تبلى السرائر} أي تختبر السرائر ، وهي القلوب ، فإن الحساب يوم القيامة على ما في القلوب ، والحساب في الدنيا على ما في الجوارح …
ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المنافقين معاملة المسلمين حيث كان يُستأذن في قتلهم فيقول : «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» ، فكان لا يقتلهم وهو يعلم أن فلانًا منافق ، وفلانًا منافق ، لكن العمل في الدنيا على الظاهر ويوم القيامة على الباطن .
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
( أي تختبر سرائر الصدور ، ويظهر ماكان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه ، قال تعالى :" يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ، ففي الدنيا تنكتم كثير من الأمور ، ولا تظهر عيانا للناس ، وأما في القيامة ، فيظهر برُّ الأبرار ، وفجور الفجّار ، وتصير الأمور علانية )
مما سـبق يتبين لنا عظم شأن القلب والسريرة، حيثُ إنَّها محطُّ نظر الله عز وجل، وعليها مـدارُ القبـول عنده سبحانه، وحسب صلاحها وفسادها يكون حسـن الخاتمة وسوؤها…
وكلما صلحت الســريرة نمـت الأعمال الصالحة، وزكت، ولو كانت قليلةً والعكس،
من ذلك في قلة بركة الأعمال، حينما تفسد السريرة ويصيبها من الآفات ما يصيبها…
وهذا هو الذي يفسر لنا تفوق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على غيرهم، ممن جاء بعدهم، والذي قد يكون أكثر من بعض الصحابة عبادةً وقربات.
حيث إنَّ أساس التفاضلِ بين العباد عند الله عز وجل، هو ما وقرَ في القلب من سريرةٍ صالحة، حشوها المحبة والتعظيم، والإخلاص لله تعالى.
وأخبار السلف في حرصهم على أعمال القلوب، وإصلاح السرائر كثيرة ومتنوعة، وبخاصة فيما يتعلق بمحبة الله عز وجل، والخوف منه وإخلاص العمل له سبحانه، ومن ذلك:
* قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم للغد، والأمانة ألاَّ تخالف سريرةٌ علانية، واتقوا الله عز وجل،فإنما التقوى بالتوقي،ومن يتق الله يقه }
* وعن نعيم بن حمـاد قال: سـمعت ابن المبـارك يـقول: ما رأيـتُ أحدًا ارتفع مثـل مالك، ليس لهُ كثيرُ صلاة ولا صيام، إلاَّ أن تكون له سريرة .