السلام عليكم و رحمة الله وبركاته .
"لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"
قال ابن كثير في تفسير الآية:
قَوْلُهُ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ} أَيْ: مُهْلِكٌ {نَفْسَكَ} أَيْ: مِمَّا تَحْرِصُ [عَلَيْهِمْ] (1) وَتَحْزَنُ عَلَيْهِمْ {أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} ، وَهَذِهِ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فِي عَدَمِ إِيمَانِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فَاطِرٍ:8] ، وَقَالَ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الْكَهْفِ:6]
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحُسْنُ، وَقَتَادَةُ، وَعَطِيَّةُ، وَالضَّحَّاكُ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أَيْ: قَاتِلٌ نَفْسَكَ. قَالَ الشَّاعِرُ (2)
أَلَّا أيّهذاَ البَاخعُ الحُزنُ نفسَه … لِشَيْءٍ (3) نَحَتْهُ عَنْ يَدَيه الَمقَادِرُ …
و قال الواحدي في الوجيز :
{لعلَّك باخعٌ نفسك} قاتلٌ نفسك {أن لا يكونوا مؤمنين} لتركهم الإِيمان وذلك أنَّه لما كذَّبه أهل مكًّة شقَّ عليه ذلك فأعلمه الله سبحانه أنَّه لو شاء لاضطرهم إلى الإِيمان فقال:إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فظلت أعناقهم لها خاضعين} يذلُّون بها فلا يلوي أحدٌ منهم عنقه إلى معصية الله تعالى.
و قال الشوكاني
والبخع في الأصل: أن يبلغ بالذبح النخاع، بالنون، قاموس، وهو عرق في القفا، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الكهف، وقرأ قتادة «باخع نفسك» بالإضافة، وقرأ الباقون بالقطع. قال الفراء: أن في قوله: ألا يكونوا مؤمنين في موضع نصب لأنها جزاء، قال النحاس: وإنما يقال: إن مكسورة لأنها جزاء، هكذا المتعارف والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن: إنها في موضع نصب، مفعول لأجله، والمعنى:
لعلك قاتل نفسك لتركهم الإيمان، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان حريصا على إيمان قومه، شديد الأسف لما يراه من إعراضهم.
و بين بن عاشور في التحرير و التنوير
(لعل) إذا جاءت في ترجي الشيء المخوف سميت إشفاقا وتوقعا. وأظهر الأقوال أن الترجي من قبيل الخبر، وأنه ليس بإنشاء مثل التمني.
والترجي مستعمل في الطلب، والأظهر أنه حث على ترك الأسف من ضلالهم على طريقة تمثيل شأن المتكلم الحاث على الإقلاع بحال من يستقرب حصول هلاك المخاطب إذا استمر على ما هو فيه من الغم .
والباخع: القاتل. وحقيقة البخع إعماق الذبح. يقال: بخع الشاة، قال الزمخشري: إذا بلغ بالسكين البخاع بالموحدة المكسورة وهو عرق مستبطن الفقار، كذا قال في «الكشاف» هنا وذكره أيضا في «الفائق» . وقد تقدم ما فيه عند قوله تعالى: فلعلك باخع نفسك على آثارهم في سورة الكهف . وهو هنا مستعار للموت السريع، والإخبار عنه .ب باخع تشبيه بليغ. وفي باخع ضمير المخاطب هو الفاعل.
الفاعل ل باخع والجملة خبر (لعل) . وإسناد باخع إلى ألا يكونوا مؤمنين مجاز عقلي لأن عدم إيمانهم جعل سببا للبخع. وجيء بمضارع الكون للإشارة إلى أنه لا يأسف على عدم إيمانهم ولو استمر ذلك في المستقبل فيكون انتفاؤه فيما مضى أولى بأن لا يؤسف له.
وحذف متعلق مؤمنين إما لأن المراد مؤمنين بما جئت به من التوحيد والبعث وتصديق القرآن وتصديق الرسول، وإما لأنه أريد بمؤمنين المعنى اللقبي، أي أن لا يكونوا في عداد الفريق المعروف بالمؤمنين وهم أمة الإسلام. وضمير ألا يكونوا عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين دعاهم النبيء صلى الله عليه وسلم.وعدل عن: أن لا يؤمنوا، إلى ألا يكونوا مؤمنين لأن في فعل الكون دلالة على الاستمرار زيادة على ما أفادته صيغة المضارع، فتأكد استمرار عدم إيمانهم الذي هو مورد الإقلاع عن الحزن له. وقد جاء في سورة الكهف [6] فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث بحرف نفي الماضي وهو (لم) لأن سورة الكهف متأخرة النزول عن سورة الشعراء فعدم إيمانهم قد تقرر حينئذ وبلغ حد المأيوس منه.وضمير يكونوا عائد إلى معلوم من مقام التحدي الحاصل بقوله: طسم تلك
آيات الكتاب المبين [الشعراء: 1، 2] للعلم بأن المتحدين هم الكافرون المكذبون.
و أختم بقول ذِي الرِّمَّةِ (أبو الحارث):
ألا أيُّهَذَا الباخعُ الوَجْدُ نَفْسَهُ … لشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقادِرُ…….
(تفسير ابن كثير)
——————————–
(1) زيادة من ف، أ.
(2) هو ذو الرمة، والبيت في تفسير الطبري (19/37) .
(3) في ف: "بشيء".