الصِّيَامُ عَـمَّا حَرَّمَ اللهُ
إن من آكد ما ينبغي على الصوَّام لزومُهُ والعنايةُ به حفظَهم لصيامهم من نواقص قدره ومذهبات أجره .
روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ))(1).
فمع قيام هذا العبد بالصلاة والصيام والزكاة إلا أنه قد فقَدَ أجرها وخسِر ثوابها بما اقترفت جوارحه من الظلم والعدوان وبما اكتسب لسانه من الشتم والبهتان فكان من المفلسين .
ولهذا ؛ فإن مما ينبغي أن يفيده المسلم من صيامه ويجنيه من طاعته العظيمة هذه أن يعلم أن وجوب الصيام عن الطعام والشراب وسائر المفطرات محله شهر رمضان من طلوع فجره إلى غروب شمسه ، أما الصيام عن الحرام فمحله طيلة أيام السنة بل طيلة عمر الإنسان ، فالمسلم يصوم في أيام شهر رمضان عما أحلَّ الله له في غيره وعمّا حرَّم ، ويصوم طيلة حياته عن الحرام ، وذلك أن الصوم في اللغة : إمساكٌ وامتناع ، فإمساكُ وامتناع العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج عما مُنِعَت عنه من الحرام هو صيام من حيث اللغة ، وهو واجب على الإنسان مدة حياته وطول عمره .
والله سبحانه لما تفضَّل على عباده بهذه النعم العظيمة – العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج وغيرها – أوجب عليهم استعمالُها فيما يرضيه ، وحرَّم عليهم استعمالها فيما يسخطه ، ومن تمام شكر الله على هذه النعم استعمالها فيما أمر الله أن تُستعمل فيه ، وكفُّها ومنعها عما حرَّم الله ، وإمساكها عن الوقوع في معصيةِ مَنْ تفضَّل بها وهو الله سبحانه .
فالعين – مثلاً – شُرع استعمالها في النظر إلى ما أحلَّ الله ، ومُنع استعمالها في النظر إلى الحرام كالنظر إلى الأجنبيات ، أو النظر إلى ما تبثه كثير من الفضائيات والمرئيات من تمثيليات فاضحة وأفلام ساقطة ومناظر هابطة إلى غير ذلك، وامتناعها عن هذا النظر هو صيامٌ لها ، وحُكْمه مستمرٌّ دائم .
والأذن شُرع استعمالها في استماع ما أمر الله به وما أباح لها ، وحُرِّم استعمالها فيما لا يجوز سماعه من لغوٍ أو لهوٍ أو غناءٍ أو كذبٍ أو غيبة أو غير ذلك مما حرَّم الله ، وامتناعها عن ذلك هو صيامٌ لها ، وحكمه مستمرٌ دائم .
واليد شُرع استعمالها فيما أمر الله به وفي تعاطي ما هو مباح ، ومُنِع استعمالها فيما حرَّم الله ، وامتناعها عن ذلك صيامٌ لها ، وحكمه مستمرٌ دائم.
وكذلك الفرج فقد شُرع الله استعماله في الحلال ، ومُنع من استعماله في الحرام كالزنا واللواط وغيرهما ، وامتناعه عن ذلك صيامٌ له ، وحكمه مستمرٌ دائم .
وقد وَعَدَ الله من شكر هذه النعم واستعملها فيما يرضيه بالثواب الجزيل والأجر العظيم والخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وتَوَعَّدَ سبحانه من لم يحافظ عليها ولم يراعِ الحكمة من خلْقها وما أريد استعمالها فيه بل أطلقها فيما يسخط الله ويغضبه بالعذاب والعقاب ، وأخبر سبحانه أن هذه الجوارح مسؤولة يوم القيامة عن صاحبها وهو مسؤول عنها ، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ، وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] ، وقال عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19-21] .
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى معاذ بن جبل بحفظ لسانه فقال له معاذ : ((يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ – صلى الله عليه وسلم – ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))(2) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ))(3)، ورواه الترمذي وحسَّنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه : ((مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ))(4)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ))(5)، وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : ((قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)) (6)
فهذه النصوص وما جاء في معناها قد دلّت على أن الواجب على العبد أن يصون لسانه وفرجه وسمعه وبصره ويده ورجله عن الحرام ، وهو صيام من حيث اللغة ، وهذا الصيام لا يختص بوقت دون آخر ، بل يجب الاستمرار عليه حتى الممات طاعةً لله عز وجل ليفوز برضا الله وثوابه ويسْلَم من سخطه وعقابه ؛ فإذا أدرك المسلم أنه في شهر الصيام امتنع عما أحلَّ الله له لأن الله حرَّم عليه ذلك في أيام شهر رمضان فليدرك أيضاً أن الله قد حرَّم عليه الحرام مدّة حياته وطوال عمره ، وعليه الكفُّ عما حرَّم والامتناع عنه دائماً خوفاً من عقاب الله الذي أعدَّه لمن خالف أمره وفَعَلَ ما نهى عنه .
ومن حفظ لسانه عن الفحش وقول الزور ، وفرجه عمّا حرَّم الله عليه ، ويده من تعاطي ما لا يحل تعاطيه ، ورجله عن المشي إلاَّ فيما يرضيه ، وسمعه عن سماع ما يحرُم سماعه ، وبصره عما حرَّم الله النظر إليه ، واستعمل هذه الجوارح في طاعة الله وما أحلَّ له وحفظها وحافظ عليها حتى توفاه الله فإنه يفطر بعد صيامه هذا على ما أعدَّه الله لمن أطاعه من النعيم المقيم والفضل العظيم مما لا يخطر على بال ولا يحيط به مقال ، وأول ما يلاقيه من ذلك : ما بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجري للمؤمن عند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة حيث يأتيه عند الموت وفي آخر لحظاته من الدنيا ملائكة كأن وجوههم الشمس معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة يتقدمهم ملك الموت فيقول : ((أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ ؟! فَيَقُولُونَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى ، قَالَ فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ دِينِيَ الْإِسْلَامُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَقُولَانِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ ؟ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ : أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، قَالَ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، قَالَ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ ؟! فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ ، فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ ، فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي))(7).
هذا هو ثواب الصائمين عما حرم الله ، الملازمين لطاعة الله ، المحافظين على أوامره ، المجتنبين لنواهيه . جعلنا الله وإياكم منهم ، وهدانا سلوك سبيلهم .
روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا ؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ))(1).
فمع قيام هذا العبد بالصلاة والصيام والزكاة إلا أنه قد فقَدَ أجرها وخسِر ثوابها بما اقترفت جوارحه من الظلم والعدوان وبما اكتسب لسانه من الشتم والبهتان فكان من المفلسين .
ولهذا ؛ فإن مما ينبغي أن يفيده المسلم من صيامه ويجنيه من طاعته العظيمة هذه أن يعلم أن وجوب الصيام عن الطعام والشراب وسائر المفطرات محله شهر رمضان من طلوع فجره إلى غروب شمسه ، أما الصيام عن الحرام فمحله طيلة أيام السنة بل طيلة عمر الإنسان ، فالمسلم يصوم في أيام شهر رمضان عما أحلَّ الله له في غيره وعمّا حرَّم ، ويصوم طيلة حياته عن الحرام ، وذلك أن الصوم في اللغة : إمساكٌ وامتناع ، فإمساكُ وامتناع العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج عما مُنِعَت عنه من الحرام هو صيام من حيث اللغة ، وهو واجب على الإنسان مدة حياته وطول عمره .
والله سبحانه لما تفضَّل على عباده بهذه النعم العظيمة – العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج وغيرها – أوجب عليهم استعمالُها فيما يرضيه ، وحرَّم عليهم استعمالها فيما يسخطه ، ومن تمام شكر الله على هذه النعم استعمالها فيما أمر الله أن تُستعمل فيه ، وكفُّها ومنعها عما حرَّم الله ، وإمساكها عن الوقوع في معصيةِ مَنْ تفضَّل بها وهو الله سبحانه .
فالعين – مثلاً – شُرع استعمالها في النظر إلى ما أحلَّ الله ، ومُنع استعمالها في النظر إلى الحرام كالنظر إلى الأجنبيات ، أو النظر إلى ما تبثه كثير من الفضائيات والمرئيات من تمثيليات فاضحة وأفلام ساقطة ومناظر هابطة إلى غير ذلك، وامتناعها عن هذا النظر هو صيامٌ لها ، وحُكْمه مستمرٌّ دائم .
والأذن شُرع استعمالها في استماع ما أمر الله به وما أباح لها ، وحُرِّم استعمالها فيما لا يجوز سماعه من لغوٍ أو لهوٍ أو غناءٍ أو كذبٍ أو غيبة أو غير ذلك مما حرَّم الله ، وامتناعها عن ذلك هو صيامٌ لها ، وحكمه مستمرٌ دائم .
واليد شُرع استعمالها فيما أمر الله به وفي تعاطي ما هو مباح ، ومُنِع استعمالها فيما حرَّم الله ، وامتناعها عن ذلك صيامٌ لها ، وحكمه مستمرٌ دائم.
وكذلك الفرج فقد شُرع الله استعماله في الحلال ، ومُنع من استعماله في الحرام كالزنا واللواط وغيرهما ، وامتناعه عن ذلك صيامٌ له ، وحكمه مستمرٌ دائم .
وقد وَعَدَ الله من شكر هذه النعم واستعملها فيما يرضيه بالثواب الجزيل والأجر العظيم والخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وتَوَعَّدَ سبحانه من لم يحافظ عليها ولم يراعِ الحكمة من خلْقها وما أريد استعمالها فيه بل أطلقها فيما يسخط الله ويغضبه بالعذاب والعقاب ، وأخبر سبحانه أن هذه الجوارح مسؤولة يوم القيامة عن صاحبها وهو مسؤول عنها ، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ، وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] ، وقال عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19-21] .
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى معاذ بن جبل بحفظ لسانه فقال له معاذ : ((يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ – صلى الله عليه وسلم – ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))(2) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ))(3)، ورواه الترمذي وحسَّنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه : ((مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ))(4)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ))(5)، وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : ((قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)) (6)
فهذه النصوص وما جاء في معناها قد دلّت على أن الواجب على العبد أن يصون لسانه وفرجه وسمعه وبصره ويده ورجله عن الحرام ، وهو صيام من حيث اللغة ، وهذا الصيام لا يختص بوقت دون آخر ، بل يجب الاستمرار عليه حتى الممات طاعةً لله عز وجل ليفوز برضا الله وثوابه ويسْلَم من سخطه وعقابه ؛ فإذا أدرك المسلم أنه في شهر الصيام امتنع عما أحلَّ الله له لأن الله حرَّم عليه ذلك في أيام شهر رمضان فليدرك أيضاً أن الله قد حرَّم عليه الحرام مدّة حياته وطوال عمره ، وعليه الكفُّ عما حرَّم والامتناع عنه دائماً خوفاً من عقاب الله الذي أعدَّه لمن خالف أمره وفَعَلَ ما نهى عنه .
ومن حفظ لسانه عن الفحش وقول الزور ، وفرجه عمّا حرَّم الله عليه ، ويده من تعاطي ما لا يحل تعاطيه ، ورجله عن المشي إلاَّ فيما يرضيه ، وسمعه عن سماع ما يحرُم سماعه ، وبصره عما حرَّم الله النظر إليه ، واستعمل هذه الجوارح في طاعة الله وما أحلَّ له وحفظها وحافظ عليها حتى توفاه الله فإنه يفطر بعد صيامه هذا على ما أعدَّه الله لمن أطاعه من النعيم المقيم والفضل العظيم مما لا يخطر على بال ولا يحيط به مقال ، وأول ما يلاقيه من ذلك : ما بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجري للمؤمن عند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة حيث يأتيه عند الموت وفي آخر لحظاته من الدنيا ملائكة كأن وجوههم الشمس معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة يتقدمهم ملك الموت فيقول : ((أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ ؟! فَيَقُولُونَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى ، قَالَ فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ دِينِيَ الْإِسْلَامُ ، فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَقُولَانِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ ؟ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ : أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ ، قَالَ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، قَالَ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ ؟! فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ ، فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ ، فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي))(7).
هذا هو ثواب الصائمين عما حرم الله ، الملازمين لطاعة الله ، المحافظين على أوامره ، المجتنبين لنواهيه . جعلنا الله وإياكم منهم ، وهدانا سلوك سبيلهم .
عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفضهما الله
———————
(1) مسلم (2581).
(2) رواه الترمذي (2616) ، وابن ماجه (3973) ، واللفظ للترمذي .
(3) رواه البخاري (6474).
(4) سنن الترمذي (2409).
(5) متفق عليه ؛ البخاري (6135) ، مسلم (47) .
(6) متفق عليه ؛ البخاري (11) ، مسلم (42).
(7) رواه الإمام أحمد في المسند (18534) .