الحث على العمل
9 جمادى الثانية 1413 هـ 4 كانون الأول 1992 م
… جعل الناس في الأوراق متفاوتين، ليكون من بينهم أناس حامدين شاكرين، وآخرون قانعين صابرين ولم يرض للفقراء والمحتاجين أن يكونوا عن العمل عاطلين، بل ينبغي أن يكونوا لطلب رزقهم ساعين، ولابتغاء فضله سبحانه طالبين.
… سيد الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين، كان على العمل من المشجعين، ولطلب الرزق من الساعين، فقد روى أنه كان للأغنام من الراعين، وللتجارة من المسافرين، ولشؤون بيته من الصناعين، وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : {سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسأل}.
إذا كانت حكمة الله في خلقه أن يتفاوتوا في الرزق، وأن يكون هناك أغنياء وفقراء، فإن هذا لايعني أبداً الركون إلى الكسل أو التهاون في السعي، وذلك أن الله جعل لكل شيء سبباً، فبدل من أن يندب الإنسان حظه، ويشكو الفقر والحاجة، عليه أن يجد ويعمل، ويجتهد ويكدح، وبدل أن يتمنى الإنسان الأمامي ويحلم بالآمال والأموال، عليه أن يسأل التيسير والتوفيق له في أعماله وأن يبارك له في أرزاقه.
في هذا المعنى يقول الله : ولاتتمنوا مافضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا، وللنساء نصيب مما اكتسبن، واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليماً. ينهى الله المؤمنين عن التحاسد وعن تمني مافضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح المقسوم له من بسط الرزق أو قبض، يقول الله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له، علماً بأن ماقسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسداً له، ولايجوز له أن يحسد أخاه على حظه أو على ماله أو جاهه، يقول الله : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات.
ومرة أخرى بدل أن تحسد وتتمنى ماعند غيرك، فإن الواجب عليك أن تعمل مافي جهدك وأن تجد وتجتهد، واعلم أن نصدر الفضل والعطاء والإحسان والإنعام هو الله ، فاسأله هو، ولاتسأل غيره، واعتمد عليه ولاتعتمد على غيره، وقد وجه الله الأنظار إلى هذا فقال: واسألوا الله من فضله فإن الله يعطيكموه إن شاء، وخزائنه ملأى لاتنفد فلا تتمنوا نصيب غيركم ولاتحسدوا أحداً، فالتمني لايجدي شيئاً.
بل يجب العمل والسعي، فالمال لايأتي الإنسان إلا بسعيه وجهده، وبعد تقديم وبذل وجهد وتعب.
وقد حث الإسلام على العمل الجاد والسعي الدؤوب من أجل كسب الرزق المقسوم، ولم يرض لأحد أن يقعد وينتظر الناس أن يعطوه، فقد قال : {لأن يحمل الرجل حبلاً فيحتطب به، ثم يجيء فيضعه في السوق فيبيعه ثم يستغني به، فينفقه على نفسه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه} أخرجه الإمام أحمد.
وقد روي أن عمر بن الخطاب رأى بعد الصلاة قوماً قابعين في المسجد بدعوى التوكل على الله، فعلاهم بدرته، وقال: "لايقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لاتمطر ذهباً ولافضة".
ومن الأحاديث الحاثة على العمل، والداعية إلى الجد والبذل، ماورد عن أنس بن مالك عن النبي قال: {إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة (أي نخلة صغيرة) فإن استطاع أن لاتقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها}.
والكسب والعمل أمر تدعو إليه الفطرة السليمة، ولولاه لأحب الناس التقاعس والكسل والبعد عن العمل، فكانت القاضية عليهم، غير أن الكسب القائم على حب جمع المال واكتنازه من دون حاجة تدفع إلى ذلك، حرام، لايقره الإسلام.
وإنما يقر الكسب الطيب والادخار لوقت الحاجة، وأن يكون الإنسان مستغنياً عن مد يده للآخرين.
يروى أن شقيقاً البلخي، ذهب في رحلة تجارية، وقبل سفره ودع صديقه إبراهيم بن أدهم حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم يمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجباً: ماالذي عجّل بعودتك؟ قال شقيق: رأيت في سفري عجباً، فعدلت عن الرحلة، قال إبراهيم: خبراً ماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائراً كسيحاً أعمى، وعجبت وقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لايبصر ولايتحرك؟ ولم ألث إلا قليلاً حتى أقبل طائر آخر يحمل له العظام في اليوم مرات حتى يكتفي، فقلت: إن الذي رزق هذا الطائر في هذا المكان قادر إن يرزقني، وعدت من ساعتي.
فقال إبراهيم: عجباً لك ياشقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة غيره، ولم ترض أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه وعلى غيره من العميان والمقعدين؟ أما علمت أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟.
فقام شفيق إلى إبراهيم وقبّل يده، وقال: أنت أستاذنا ياأبا إسحاق، وعاد إلى تجارته.
هؤلاء قد فهموا الإسلام، فهموه عملاً وتعباً، جهداً وبذلاً، لم يفهموا الإسلام تقاعساً ولاكسلاً، ولادعة ولاخمولاً، بل عمل جاد وسعي دؤوب، وذلك لأن الإسلام قد رفع من شأن صاحب اليد العليا، ولايريد لأتباعه أن يكونوا عالة على غيرهم.
فهو يدفعهم إلى العمل وإلى الأخذ بالأسباب، ولايرضى لهم الخمول والكسل والتسكع على الأبواب.
إن الحرية في النشاط الاقتصادي محدودة بأمرين، ومقيدة بشرطين:
– أن يكون هذا النشاط غير مضر بالمصلحة العامة.
– أن يكون هذا النشاط مشروعاً من وجهة نظر الإسلام.
وذلك حتى يأكل الإنسان ماله بالحلال.
ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم هذا أمر من الله أمر به عباده المرسلين بالأكل من الحلال والقيام بصالح الأعمال شكراً للنعمة، وهذا دليل على أن الحلال عوده على المال الصالح.
ومن أمثلة المال الحلال: أن عيسى كان يأكل من غزل أمه.
وأن داود كان يأكل من كسب يده، فيعمل الدروع ذات الحِلَق من الحديد بيده، معجزة له وأمراً خارقاً للعادة.
روى مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : {ياأيها الناس إن الله طيب لايقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم وقال: ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات مارزقناكم. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، يمد يده إلى السماء يارب يارب، فأنى يستجاب له؟.
وأخرج أحمد عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى النبي بقدح لبن حين فطره وهو صائم، فرد إليها رسولها، وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي، ثم رده، وقال: ومن أين هذه الشاة؟ فقالت: اشتريتها بمالي، فأخذه، فلما كان من الغد جاءته، وقالت يارسول الله: لِمَ رددته؟ فقال: {أُمِرَت الرسل ألا يأكلوا إلا طيباً ولايعملوا إلا صالحاً}.