إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومَنْ يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعتبروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة حتى تنتهوا إلى آخر سفركم، وإن كل يوم يمر بكم بل كل لحظة تمر بكم فإنها تبعدكم من الدنيا وتقربكم من الآخرة .
إن الماضي لبعيد، وإن المستقبل لقريب، وإن هذه الأيام والليالي لخزائن لأعمالكم محفوظة لكم شاهدة بما فيها من خير أو شر، فطوبى لعبد اغتنم فرصها بما يقرب إلى مولاه، وطوبى لعبد شغلها بالطاعات واجتناب المعاصي، وطوبى لعبد اتعظ بما فيها من تقلبات الأمور والأحوال فاستدل بذلك على ما لله – عزَّ وجل – من الحكم البالغة والأسرار:(يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأَبْصَارِ) [النور:44] .
عباد الله، ألم تروا إلى هذه الشمس تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب في مغربها فإن في ذلك أعظم اعتبار، إن طلوعها ثم غروبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار وإنما هي طلوع ثم غيوب وإدبار، ألم تروا إلى القمر يطلع هلالاً صغيراً في أول الشهر كما يولد الأطفال وهكذا الإنسان وحياته تماماً، فاعتبروا يا أولي الأبصار، فإن الإنسان يخلق من ضعف ثم إلى قوة ثم إلى ضعف كما قال الله عزَّ وجل:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم:54] .
إن هذا الهلال يبدو صغيراً كما يبدو الطفل ثم ينمو رويداً رويداً كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل في النمو أخذ في النقص والاضمحلال وهكذا حال الإنسان وحياته، فاعتبروا يا أولي الأبصار، ألم تروا إلى هذه السنين تتجدد عاماً بعد عام، يجيء أول العام فينتظر الإنسان آخره نظر البعيد ثم تمر الأيام سريعة كلمح البصر فإذا هو في آخر العام وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد ويطيل ويبعد الموت فإذا به قد باغته الأجل: )وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ )[ق: 19] ، ربما يؤمل الإنسان طول العمر ويتسلى بالأماني فإذا بحبل الأمل قد انصرم وإذا ببناء الأماني قد انهدم وإذا هو بالموت قد بغته، فاعتبروا أيها الإخوة، واستعدوا لما هو أمامكم .
أيها المسلمون، إنكم في هذه الأيام تودِّعون عاماً ماضياً شهيداً وتستقبلون عاماً مشرقاً جديداً، فيا ليت شعري ماذا أودعنا في العام الماضي وماذا نستقبل به العام الجديد ! فليحاسب العاقل نفسه ولينظر في أمره، فإن كان فرط في شيء من الواجبات فليتب إلى الله وليستدرك ما فات، وإن كان ظالماً لنفسه بفعل المحرمات فليقلع عنها قبل حلول الأجل والفوات، وإن كان ممَّن منَّ الله عليه بالاستقامة فأدى ما وجب واجتنب ما حرم فليحمد الله على ذلك وليسأله الثبات عليه إلى الممات، فإن الإنسان مادامت نفسه في جسده فإنه عرضة للزيغ والضلال، ويروى أن الأمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – حضرته الوفاة فسُمع يقول: بعد بعد، فلما أفاق قيل له: يا أبا عبد الله ما بعد بعد ؟ قال: رأيت الشيطان تمثل لي يعض على أنامله يقول: فتني يا أحمد فأقول: بعد بعد أي: مادامت الروح في الجسد فإن الإنسان لا تؤمن عليه الفتنة، نسأل الله – تعالى – وإياكم أن يقينا فتنة المحيا والممات .
إخواني، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ليس بالتمني بالقلب ولا بالتحلي بالجسد، كم من إنسان تحلى بجسده تحليَّ المؤمن ولكنه أبعد من الإيمان بعد المشرق عن المغرب ! كما قال الله – تعالى – عن المنافقين:(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون:4]، فليس الإيمان بالتمني بالقلب ولا بالتحلي بالمظاهر وإنما الإيمان: ما حَلَّ في القلب وصدقته الأعمال، ليست التوبة لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسَدَ الجسد كله ألا وهي القلب» .
أيها المسلمون، حققوا إيمانكم بأعمالكم وأخلصوا التوبة مادمتم في زمن الإمكان .
وعَظَ النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – رجلاً فقال:«اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك»، ففي الشباب عزيمة وقوة، فإذا هرم الإنسان فترت العزيمة وضعفت القوة ولم يستطع التخلص مما شبَّ عليه، وفي الصحة انشراح ونشاط، فإذا مرض الإنسان ضاقت نفسه وانحط نشاطه وثقلت عليه الأعمال، وفي الغنى راحة وفراغ، فإذا افتقر الإنسان قَلِقَ فكره وانشغل بطلب العيش لنفسه وحياته، وفي الحياة ميدان فسيح للأعمال، فإذا مات الإنسان انقطعت عنه أوقات العمل وفات زمن الإمكان كما قال نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»، فاعتبروا – أيها المسلمون – بهذه المواعظ وقيسوا ما بقي من أعماركم بما مضى منها؛ فإن ما بقي منها سوف يمضي سريعاً كما مضى ما سبق، واعلموا أن كل آتٍ قريب وكل شيء من الدنيا زائل:(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)[ النازعات:46] .
أيها الإخوة الأحياء، تذكروا إخواناً لكم كانوا معكم في مثل هذه الأيام من سالف الأعوام ثم انتقلوا من القصور إلى القبور ومن الأهل والأموال إلى الجزاء على الأعمال فأصبحوا مرتهنين بأعمالهم في قبورهم يتمنون زيادة حسنة في أعمالهم فلا يستطيعون، ويتمنون أن يتوبوا من سيئات أعمالهم وهم عن التوبة بعد الموت محجوبون، رُؤيَ بعض الأموات في المنام فقال: قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل وأنتم تعملون ولا تعلمون أي: لا تعلمون ما حلَّ بنا، واللهِ لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا وما فيها .
عباد الله، بادروا بالتوبة، واعرفوا قدر ما أنتم فيه اليوم وما ستقدمون عليه غداً، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها»، موضع السوط: نحو ذراع أو ذراع ونصف خير من الدنيا وما فيها، وليست الدنيا دنيا عصرك فحسب ولا دنياك وحدك بل الدنيا كلها من أولها إلى آخرها ما كان لك وما كان لغيرك، (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)[الإسراء:21] (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى:16-17] (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) .
عباد الله، اقرؤوا ما ذكر الله عن ابتداءِ الخلق وانتهائه في قوله تعالى:(إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)[يونس:4-6] (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)[الحشر:2]، واعملوا ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، اللهم ارزقنا اليقظة بعد الغفلة، ووفقنا للتوبة النصوح والعمل الصالح قبل النقلة، وارزقنا اغتنام الأوقات وقت المهلة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلِّ اللهم وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
خطبة جمعة لفضيلة الشيخ محمد بن صالخ العثيمين رحمه الله