أ د. عـادل كمـال خضـر
أستاذ ورئيس قسم علم النفس
كلية الآداب _ جامعة بنـها
استخدم الإنسان الرسوم منذ القدم ، ولعل ما سجله قدماء المصريين على جدران المعابد والكهوف من رسومات ونقوش خير دليل على أهمية ودلالة الرسوم بالنسبة لهم ، حيث كانت الرسوم هي اللغة التي يعبرون بها عن أفكارهم ومشاعرهم تجاه الأفراد الذين يعيشون معهم ، ويعبرون بها كذلك عما يخبرونه من أحداث في بيئتهم وما يتطلعون إلى تحقيقه من رغبات وآمال ، حيث كانت لغتهم الهيروغليفية ذاتها عبارة عن أشكال مصورة ، ومن المعروف أن اللغات القديمة في العصور الأولى كانت تعبر عن الأفكار بلغة مرسومة ، بينما تعبر اللغات الحديثة عن الأفكار بالكلمات ..
ولما كانت اللغة لها وظيفة التعبير عن الذات وما تحويه بداخلها من مشاعر وانفعالات ، وأنها تعد أداة للتواصل بين الذات والآخرين ، فإننا في مجال علم النفس نعتبر رسوم الأطفال ــ وكذا رسوم الكبار والمرضى بصفة خاصة ــ بمثابة لغة مصورة يعبر من خلالها الأطفال عن أنفسهم ، حيث يعكسون عبر رسوماتهم ما يشعرون به تجاه ذاتهم ، ويعبرون من خـلالها أيضاً عن علاقتهم ببيئتهم وبالآخرين من حولهم كباراً وصغاراً سواء في الأسرة أو المدرسة أو في الشارع .. وإلى جانب ما سبق فإن رسوم الأطفال تعكس كذلك ما يعاني منه الأطفال من مشكلات واضطرابات نفسية ، ومن ثم فإنه يمكن الاسـتفادة من رسوم الأطفال في تشخيص مشكلاتهم ، وخاصة مع أولئك الأطفال غير المتعاونين في جلسات الفحص النفسي أو الذين لا يرغبون في أن يكشفوا عن حقيقة مشاعرهم تجاه الآخرين ، أو الذين لا يعكسون حقيقة ما قد خبروه من أحداث في حياتهم لكونهم يخجلون منها ، أو لكونها لاشعورية لا يعرفون كنهها .
والرسوم من حيث هي لغة إنما هي لغة بدائية يعبر من خلالها الإنسان عن أفكاره ، وأحاسيسه ، ومشاعره ، وأفعاله ، ومعتقداته الدينية ، وهذا مسجل من خلال النقوش الخاصة بالفراعنة في المعابد .. كذلك نجد أن صغار الأطفال يعبرون بتلقائيتهم المعروفة على الجدران في الشارع وداخل المنزل لكي يعكسون مشاعرهم الحقيقية تجاه أنفسهم والآخرين ، ومن ثم كانت الرسوم وسيلة ممتازة لارتياد عالم الطفل ، في الوقت الذي تكون فيه اللغة المنطوقة قاصرة عن تحقيق ذلك .
وتعد رسوم الأطفال أسلوب بديل للغة الحوار ، إذ أن لدى الإنسان القدرة على أن يحول الأفكار إلى صور بالقدر الذي يمكن فيه أن يحول الصور إلى أفكار وكلمات ، ومن ثم تعد الرسوم وسيلة جيدة لكشف الصراعات النفسية ، حيث تستطيع المكبوتات العودة مرة أخرى إلى مسرح الشـــعور بطريقة رمزية مسقطة عبر الخطوط التلقائية لرسومات الأطفال المضربين نفسياً ، وأن الأخصائي النفسي يستطيع أن يتفهم حالة الطفل النفسية ويشخص مشكلته من تحليله لرسومه والتعرف على دلالات تفاصيل الموضوعات المرسومة ونسبها ومنظورها واستخدامات اللون فيها .. وفي هذا يمكن توجيه الطفل إلى رسم موضوعات محددة وجد أن لها قيمتها في التشخيص مثل : رسم الأســرة ، ورسم المنزل والشجرة والشخص ، ورســم الشــخص ( الذكري والأنثوي ) وغيرها … ويمكن كذلك استخدام الرسم الحر الذي يساعدنا في الوصول رأســاً إلى اللاشعور .
ولكن كيف نبحث عن الأفكار المتضمنة في الرسم ؟ فيما يتعلق بكيفية البحث عن أفكار الرسم ، فقد اتضح لنا من دراساتنا في المجال ، أنه عند تحليل الرسوم للبحث عن الأفكار المتضمنة فيها ، يجب ألا ننظر إلى عنصر الرسم ودلالته منفرداً ، ولكن يتم ذلك في إطار الرسم بأكمله وبجميع عناصره . كما يجب علينا عندما نقوم بتحليل رسم ما أن نضع في اعتبارنا الشخص القائم بالرسم ، بمعنى أن نحلل الرسم ونبحث عن دلالته في إطار الكل من خلال إرجاعه إلى الشخصية النوعية للشخص القائم بالرسم ، لا إلى إطار ثابت من الرموز والدلالات .
هناك إذن حتمية نفسية وراء سلوك الرسم ، أي لابد أن يكون هناك معنى ما للخطوط التي يقوم برسمها شخص ما ، فهي ليست غفلاً من المعنى ، بل محتومة بدلالات معينة لدى الشخص القائم بالرسم ، علينا أن نتعرف عليها . وهذا يعني شيئاً آخر وهو إذا كنا نسلم بأن هناك حتمية وراء السلوك الإنساني ، فلابد لنا أيضاً أن نسلم بمسلمة أخرى لا تقل أهمية عن مسلمة الحتمية ألا وهي : " التحتيم بأكثر من سبب " ، بمعنى ليس بالضرورة أن يكون لكل سلوك سبب واحد محدد ، فربما يكون لمرجع السلوك أسباب عدة ، وهذا يعني أننا أثناء تفسيرنا لدلالات الرسم يجب أن نضع في اعتبارنا أن عنصر الرسم الواحد الذي تم رسمه على نحو معين لا يعني أن لذلك دلالة معينة بالذات ، ولكن بالأحرى العديد من الدلالات ، وعلينا أن نرجح الدلالة التي تتناسب مع الشخص القائم بالرسم ، وعلى سبيل المثال فإن رسم أنف ضخم للشكل الإنساني ، قد يكون له دلالة بالنسبة لمراهق تختلف عن دلالته بالنسبة لشيخ عجوز أو طفل صغير .. ونخلص من هذا إلى أن الرسم كالحلم لا يمكن تحليله إلا بمعرفة الحياة الشخصية الاجتماعية لصاحبه .. ويجب على الأخصائي النفسي في بحثه عن الأفكار المتضمنة في الرسم لتشخيص الحالة ، أن يعتمد على تكرار بعض الرموز والدلالات في العديد من الرسومات لا أن يرتكن على رسم عارض .
انشغل المهتمون برسوم الأطفال بالتعرف على العوامل النفسية وراء محتوى رسومهم .. ووضعوا ســـؤال مؤداه : ماذا يعكس الطفل في رسمه ؟؟
وهناك آراء متعددة للباحثين في إجابتهم على هذا السؤال ، حيث ترى ماكوفر أن الطفل عادة يرسم ما يعرفه وليس ما يراه ، ويتم الرسم في الغالب من الذاكرة حيث لا ينظر الأطفال إلى الأشياء التي يرغبون في رسمها ولكنهم يعتمدون على صورتهم الذكروية التي كونوها لهذه الأشــياء ، ويبدو أن ظاهرة الشفافية Transparency التي تظهر في رسوم الأطفال تعتمد على رغبة الطفل في التعبير عما يعرفه ، فعن طريق استخدامه للشفوف ، يكشف عما تستره الأشياء ، فهو يرى من خلال السطوح سواء كانت شفافة أو غير شفافة ، فنراه يرسم السمك ظاهراً من الماء ، وبذور الجوافة أو نواة البلح أو حبات الرمان ، ظاهراً في رسمه لهذه الأشكال .
هذا ويشير Bell إلى أن معظم الدارسين لفن الطفل يعتقدون أن الطفل يرسم ما يشعر به أكثر مما يراه أو يعرف أنه حقيقي ، فالطفل في رسومه يعبر عن حياته الداخلية من أفكار ومشاعر ورغبات ومخاوف ، كذلك يرى هامر Hammer أن الرسم الذي يقوم به المفحوص إنما هو تعبير عن عالمه الداخلي وسماته واتجاهاته وخصائصه السلوكية وقوة أو ضعف شخصيته ، أما Paget فيسلم بمبدأين عامين : أولهما : أن الأطفال يرسمون ليس لتصوير الطبيعة ولكن ليخبروا عما يهمهم .. وثانيهما : أن المناظر والموضوعات المشروعة بعيدة عن مهاراتهم الفنية ولذلك فهم مجبرون على استنباط رموزهم أو إشاراتهم من أجل توضيحها ، في حين يرى لوكيه أن الطفل لا يرسم ما يفكر ولا يزعم أن يراه بالفعل ، بل يرسم العلامة أو الرمز الذي يتدفق تدريجياً في عقله عن الموضوع ، ومثال ذلك ؛ فإنه إذا طلب من الطفل أن يرسم حقلاً من البطاطس فإنه سوف يرسم مستطيلاً مملوءاً بدوائر صغيرة ، وهذا لا يعني أن الطفل يتجاهل النباتات الخضراء الموجودة فوق سطح التربة ترجيحاً لكفة تصور عقلي للدرنات غير المرئية في التربة ، بل يعني بالأحرى أنه بالنسبة للطفـــل تكون الفكرة الأولى المترابطة بالبطاطس هي الفكرة الملموسة ، أي الفكرة البصرية المعتادة فحسب ، أعني البطاطس بالمطبخ وليس البطاطس النامية كنبات في التربة ، إذن فما يمارسه هو علامة تنقل المقابل الوجداني الذي يربطه شـخصياً بالبطاطس .
وهكذا نرى أن بعض السيكولوجيين يعتقد أن الطفل يرسم ما يراه أو ما يعرفه ، أو هو يرسم العلامة والرمز الخاص بالموضوع … وبينما يرى آخرون أن الطفل يرسم ما يشعر به ، يرى البعض الآخر أن الطفل يرسم ما يهتم به من أشياء ، وهكذا نجد عدم اتفاق بين الباحثين في الإجابة على التساؤل الذي طرحناه .
وقد خلص عادل خضر إلى إجابة على التساؤل المطروح تبلور في ذات الوقت اجتهاد الباحثين السابقين ، وهي : أن الطفل ( أو الشخص القائم بالرسم ) إنما يرسم ما يثير انفعاله . وذلك على اعتبار أن الطفل يرسم من بين ما يراه ما يعرفه ، ومن بين ما يعرفه ما يهتم به بدرجة أكبر ، ومن بين ما يهتم به ما يعبر عن أحاسيسه ومشاعره ، ومن بين ما يعبر عن أحاسيسه ومشاعره ما ينفعل به بدرجة أكبر ، من هنا نصل إلى أن الشخص القائم بالرسم إنما يرسم ما يثير انفعاله ، ودليلنا على ذلك هو أن الطفل يرى أشكالاً كثيرة ويعرف منها الكثير أيضاً غير أنه لا يرسم كل ما يعرف أو كل ما يرى ، ولكنه يرسم أشكالاً معينة انفعل بها أكثر من غيرها ، مثلاً يرسم تليفزيون أو عربة وذلك تعبيراً عن حبه لهذه الأشياء ، والرغبة في التمتع بها ، أو يرسم أمـاً معها ابنها ؛ كرغبة منه في أن يكون بجوار أمه ..الخ ، وهو في ذلك يقوم برسم تفاصيل معينة داخل كل شكل في حين يحذف تفاصيل أخرى ، ويتفاوت الأطفال في ذلك وفقاً لخبراتهم الانفعالية ومشاعرهم تجاه الأشكال التي يقومون برسمها ، وكذلك يتضح من خلال النسب والمنظور واللون أن الرسم إنما هو تعبير انفعالي عن الحياة الداخلية للطفل القائم بالرسم ، فمن حيث النسب نجد المبالغة في حجم بعض أجزاء الشكل على حساب أجزاء أخرى له ، ومن حيث المنظور نجد فروقاً بين الأطفال من حيث رسم الأشكال في أوضاع متباينة وبحركات مختلفة ، وفي أماكن متفرقة على صحيفة الرسم ، وأما من حيث اللون فنجد فروقاً جمة بين الأطفال في اختيارهم للألوان التي يستخدمونها في تلوين تفاصيل الشكل ، حيث يميل بعض الأطفال إلى الألوان الحارة ، في حين يميل البعض الآخر إلى استخدام الألوان الباردة ، ويدمج آخرون الألوان الحارة مع الباردة في الشكل نفسه وبطرق متباينة ، وكل هذه التعبيرات تعكس انفعالاتهم الحقيقية تجاه موضوعات البيئة المختلفة وأحداث الحياة التي يعيشونها .
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة dida
سلام عليكم هذا موضوع ممتاز عن تاريخ الرسم عند الطفل واهم الاختبارات المستعملة في هذا المجال هو اختبار رسم العائلة الذي يوضح علاقة الطفل مع عائلته و هناك اختبار رسم الرجل الذي في الغالب يستعمل لحساب العمر العقلي لطفل و بتالي حساب مستوى الذكاء عنده كما يجد اختبار رسم الشجرة و الذي لايقل اهمية عن اختبار رسم الرجل
بارك الله فيك
أسعدني مرورك
بارك الله فيك ويعطيك ألف عافيه
مادام الرسم وسيلة للتعبير فأكيد أن هذه الوسيلة تساعدنا على فهم الشخصية
بوركت أخي على الجلب القيم
موضوع هاام
تقبل مروري المتواضع