السلام عليكم
ارجو منكم تقيييم هد المقالة كم تستحق من 20
هل يمكن تصور أفكار خارج اطار اللغة ؟
إن الانسان اجتماعي بطبعه يسعى للتواصل مع الاخرين موظفا في ذلك اللغة ، والتي عرفها لالاند : بأنها كل نسق من الاشارات يمكن ان يستعمل للتواصل . ويعرفها آخرون بأنها تلك القابلية التي يتوفر عليها الانسان لاختراع الرموز بكيفية متعمدة . و لما كانت اللغة من بين المواضيع التي اهتم بدراستها الفلاسفة و المفكرين خاصة فيما يتعلق بعلاقتها بالفكر بإعتباره مجموعة من المعاني و التصورات الذهنية الباطنية فهو نشاط ذاتي يعكس شخصية الفرد . و لهذا اعتبره البعض منهم جوهر مستقل عنها . الامر الذي لم يؤيده البعض الآخر معتبرين أن الفكر مرتبط باللغة و متصل بها ولا يمكن تصور وجود له دونها ومن هنا نتسائل : هل يمكن أن توجد أفكار خارج اطار اللغة ، و هل اللغة تعجز عن التعبير عن كامل الفكر ؟
يرى بعض الفلاسفة و المفكرين أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة انفصال و يمثل هذا الاتجاه معظم الفلاسفة الحدسيين أمثالهنري برغسون 1859-1941 الذي يؤكد أن عدم التناسب بين مانملكه من افكار و ما نملكه من الفاظ يعود الى عدة اسباب منها : ان الفكر متقدم عن اللغة كونها رموزا اصطلاحية اجتماعية في حين ان التفكير يتسم بالخاصية الداتية ، فهو انعكاس لشخصية الفرد ، ولما كان التبليغ ضروريا لقيام المجتمع فإن الفرد يضطر إلى سبك افكاره في قوالب اجتماعية ومن ثمة يفقدها حرارتها و اصالتها . ثم ان الالفاظ جامدة وثابتة إذا قيست بتطور المعاني وعلى هذا يصعب التعبير عن الحياة الفكرية الباطنية لأن عالم الافكار متصل أما عالم الالفاظ فهو منفصل . فاللغة أداة تواصل لا تخرج عن كونها الفاظ عادية ساكنة تقف عائقا في وجه الفكر . وقد حاول برغسون اظهار مساوئ اللغة في عدة كتب بأسلوب جذاب و هو القائل في هذا الشأن : * إن الالفاظ لا تسجل من الشيء سوى وظيفته الاكثر شيوعا وسذاجة *. أي ان اللغة تصور الشيء بما ليس هو و لا تقف من العواطف اللطيفة الا وقوفا خارجيا سطحيا، وهذا العجز دفع برجال الفن و الادب الرومانسيين الى التعبير عن خواطرهم بدقة من خلال الرسم و الموسيقى و الرقص … و هذا ما يؤكد ان اللغة تشوه الفكر أحيانا . و كما يحلوا للرومانسيين القول:* ما أرخص الحب إذا أصبح كلمات *. فاللغة تعجز عن نقل مشاعرنا و تضعف امام حرارة عواطفنا .
إن التجربة السيكولوجية التي يعيشها الفرد أغنى و أوسع من أن تقتنصها اللغة ، إنه يدرك ما لا يدركه العامة و هو الذي يسعى الى ابراز ماهو خاص ، لأن الفكر بمثابة قاموس انساني يحمل الكثير من الذكريات و العواطف التي يخرجها بعبارات و اشارات ، فاللغة ماهي الا وسيلة يقودها الفكر ، فهي تعكس ما يدور فيه و لا تصنعه ، بل هو { الفكر } الذي يصنع منها القوالب المناسبة لمعانيه ، لهذا يقول فاليري1871-1945: * أجمل الافكار هي التي لا نستطيع التعبير عنها *.فالفكر قائد الاشارات كما هو الشأن في المكتشفات العلميية و قدرة الانسان على خلق اكثر المعاني تجريدا كما يحدث في عالم الرياضيات و هذا يؤكد استقلالية اللغة و تبعيتها للفكر ، كما تؤكدها اسبقية فهم اللغة عند الطفل على استخدامها . فالألفاظ منفصلة و محدودة بينما المعاني مبسوطة و ممدودة .
لكن هذا الوضع يضعنا امام تساءل حاد : فإذا كان الفكر يتميز عن اللغة بالشمول فهل نملك بديلا آخر عن اللغة . وهل يمكن استبدالها بوسيلة أخرى ؟ إن أي محاولة من هذا القبيل تبدوا فاشلة و لهذا نحكم على هؤولاء انهم بالغوا في موقفهم هذا عندما ميزوا و فصلوا بين اللغة و الفكر ، فإذا كان الفكر سابق عن اللغة من الناحية المنطقية فهو ليس سابق عنها من الناحية الزمانية . بدليل ان الانسان يشعربأنه يفكر و يتكلم في نفس الوقت . كما انهم بالغوا في تمجيد الفكر الامر الذي جعله نشاطا اخرس . و قللوا من اهمية اللغة . و الواقع يثبت ان التفكير لايتم بدون لغة . فبدون هذه الاخيرة يبقى مجرد شعور باطني لا معنى له . لهذا فالمشكلة ليست في اللغة و إنما في الشخص الذي يملك ثروةلغوية للتعبير عن أفكاره . بدليل ان المعنى الواحد قد نعبر عنه بعدة كلمات . و إذا كانت حياة الانسان قد تغيرت فذلك يرجع الى اللغة ، فالازدهار في المجال الفكري يكون دائما مصحوبا بالازدهار في المجال اللغوي . و هذا ماعبر عنه كوندياك في قوله :* نحن لا نفكر بصورة حسنة او سيئة الا لأن لغتنا مصنوعة صناعة حسنة أو سيئة * و عليه لا بد من استخدام الالفاظ استخداما مظبوطا و جيدا .
يرى بعض الفلاسفة و المفكرين أمثال هيجل و هاميلتون و ماكس مولر . أن العلاقة بين اللغة و الفكر هي علاقة إتصال ، فهما شيء واحد لا يمكن أن نضع حدا فاصلا بينهما ، ولا يمكن ان توجد افكار خارج اطار اللغة ،و هذه الاخيرة لا تعجز عن التعبير عن كامل الفكر .معتمدين على المسلمة القائلة : ان اللغة ملتحمة بالفكر و أن الكلام و الفكر ليس سوى مظهرين لعملية نفسية واحدة ، فالمعنى يؤخد من العبارة و العبارة لا توجد خارج المعنى ، ولولا اللغة لما كان للفكر وجود وهذا يعني أن اللغة هي عين الفكر لقول احد الفلاسفة :* ليس ماندعوه فكرا الا وجه من وجهتي القطعة النقدية*. وهذا منطق ينطوي على مبررات أهمها : ان الانسان لا يفكر بمعزل عن اللغة ، فحتى و ان لم يكن يتكلم بصوت مرتفع فهو يخاطب نفسه في صمت ، وهذا دلالة على تطابق اللغة مع الفكر كما يقر علماء النفس ان الطفل يكتسب المعاني بإكتساب الالفاظ أي ان الارتقاء الفكري يطابق نظامه اللغوي . فالطفل يتعلمهما في آن واحد . فاللغة تثري الفكر ، فقد اثبثت الدراسات انه كلما اتسعت ثروة الفرد اللغوية زادت قدرته على التعبير و التفكير وبذلك تزاد نسبة الذكاء ، والاعتقاد بوجود نشاط فكري بدون لغة هو مجرد توهم لأنه مونولوج داخلي . إذ عندما نفكر فنحن نتكلم بصوت خافت و عندما نتحدث فنحن نفكر بصوت عال . وبذلك تكون اللغة هي نفسها الفكر . لهذا يقول هاملتون : * إن المعاني شبيهة بشرارة النار لا تومض الا لتغيب و لا يمكن تثبيتها الا بالالفاظ * . و يمكن تشبيه اللغة بورقة يكون الفكر وجهها و الصوت ظهرها ولا نستطيع ان نقطع الورقة من غير ان نقطع ظهرها . كذلك الامر عن اللغة . لا نستطيع ان نعزل الصوت عن الفكر و لا الفكر عن الصوت . فالفكر بالنسبة للغة كالروح بالنسبة للجسد ولا وجود لأحدهما دون الآخر . وهذا ما قصده ميرلوبونتي في قوله : * الفكر لا يوجد خارج العالم و بمعزل عن الكلمات * . وهذا يؤكد ان اللغة هي حاملة الفكر الى الخارج فهي تصبغه بصبغة اجتماعية تنقله من طابعه الانفعالي الذاتي ليصبح معرفة انسانية قابلة للانتقال بين الافراد و هذا ما جعل هيجل يعتقد ان الكلمة تعطي للفكر وجوده الاسمى و ان الرغبة في التفكير بدون كلمات لمحاولة عديمة المعنى . و هذه الفكرة اشار اليها ارسطو في قوله :* ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية * و هذا يعني ان العلاقة بين الفكر و اللغة ليس علاقة علة بمعلول أو ظاهر بباطن و انما علاقة تداخل . و أخيرا يمكن القول ان الكلام ليس نسخة من شيء اسمه فكر .بل الفكر هو الكلام نفسه . ونحن لا نتعرف على الفكرة صحتها ووضوحها الا لأنها قابلة لأن يتصورها الاخرون ، لهذا فإن التفكير من دون العبارات اللفظية ضرب من الوهم الكاذب .
لكن القول ان اللغة هي الفكر و الفكر هو اللغة يخالف مبدأ من مبادئ العقل وهو مبدأ الهوية فالشيء يجب ان يكون هو نفسه ، فاللغة يحب ان تكون هي اللغة و لا يمكن ان تكون هي اللغة و هي الفكر . الامر نفسه بالنسبة للفكر . إذا ما اردنا ان نبحث عن معاني اللغة و الفكر في مختلف المعاجم اللغوية و نتساءل: هل دلالة كلمة لغة هي نفسها كلمة فكر ؟ و بعيدا عن هذا فإن التجارب التي نعيشها في حياتنا تؤكد بطلان الفكر مطابق للغة . فالطالب في الامتحان قد تكون بحوزته مجموعة من الافكار يحاول ان يعبر عنها لكن تعبيره يخونه . فقد يعبر عن فكرة بغير ما يقصد و قد تجده يكتب ثم يمسح و قد ينتهي الامر به الى ان لا يكتب شيء و تبقى افكاره حبيسة فكره و عقله لأنه لم يرضى بهذه العبارات و هذا يؤكد وجود تفاوت بين اللغة و الفكر. فقد نجد الانسان غير قادر على الفهم لكنه قادر على التبليغ و هذا ما يثبت انه يفهم معاني اللغة أكثر مما يحسن من الفاظها . وهذا يعود الى عدم قدرة الالفاظ على احتواء المعاني و العواطف لهذا قيل :* إذا كانت كلماتي من ثلج فكيف تحتوي بداخلها النيران *. و من أمثلة عجز اللغة عن التعبير عن كامل الفكر أن الأم عند سماعها بخبر نجاح ابنها قد تلجأ الى الدموع .
وبناءا على ما سبق يمكن القول أن علاقة اللغة بالفكر علاقة جدلية ، فمن جهة اللغة تضع الفكر و من جهة الفكر يضع اللغة ، فنحن نفكر ثم نعبر عن أفكارنا باللغة إي ان هذا لا يعني ان اللغة مجرد وسيلة يمكن استبداله بأخرى ، لأن الافكار ترد الى الذهن و هي تلبس ثوب اللغة ، فلا يمكن القبول بأسبقية الفكر على اللغة .
ويشير آلان ان الطفل في البداية يولد صفحة بيضاء و يكتشف الافكار من اللغة التي يتعلمها ، كما ان اللغة اداة للتواصل فهي على المستوى الانساني اداة لنقل الافكار ، فالفكرة ترد الى الذهن مجسدة في قوالب لغوية و لفهمها يجب صياغتها صياغة لغوية باعتبار اللغة تسجل الافكار و التجارب الانسانية ، وهذا ما أكده لافيل في قوله : *إن اللغة ذاكرة انسانية *. فنحن مطالبون بعدم التحيز الى بعض الاساليب اذا كانت لا تعبر عن حاجاتنا مع تطور ثقافاتنا ، ولا بد ان تتحمل اللغة هذه الاصلاحات كمثل الشجرة الحسنة التي تتقبل التخلي عن أغصانها الجافة كي تستعيد نباتها فلابد أن نتخير ألفاظنا و ننتقي تعابيرنا .
و الرأي الصحيح هو الذي يرى ان اللغة مستقلة عن الفكر ومختلفة عنه ففي بعض الاحيان تعجز عن التعبير أو نقل مشاعرنا و تضعف أمام حرارتها . فاللغة لا تمس من الفكر الا الشعور و لذلك نجد صعوبة في التعبير عن الاشياء التي وراء الشعور بمقدار ما يقوى على التعبير عنها .أما الاشياء التي لا يعيدها فتبقى مكبوتة و قد تعبر عن نفسها في شكل أحلام أو فلتات اللسان .
ومنه نستنتج أن اللغة مرتبطة إرتباطا ضروريا بالفكر ، كما أن الفكر يرتبط إرتباطا ضروريا باللغة ، فلا توجد لغة بدون فكر ، و لافكر بدون لغة و العلاقة بينهما ليست علاقة متكافئة لأنها علاقة جدلية أي تفرض التناقض و هكذا يقول دولاكروا : *ان الفكر يضع اللغة في نفس الوقت الذي يضع فيه من طرف اللغة *. فتطور اللغة يبقى رهين النشاط الفكري للانسان الذي أثبت قدرته على وضع المصطلحات الجديدة لكل ابداع فكري و بهذا تتجدد اللغة بتجدد الفكر و تبقى حية طالما كان هناك فكر مبدع ، سواء كان مجال ابداعه الرياضيات أو الفلسفة أو الفن …إلخ كل هذه الميادين قوامها رموز و الفاظ تشير الى معاني و افكار مختلفة .إذن : فلا سبيل الى الاستغناء عن اللغة فهي وسيلة اساسية يعتمد عليها الانسان من اجل تحقيق التواصل مع الاخرين و بناء العلاقات الاجتماعية تضمن له البقاء و الاستمرارية .