التصنيفات
العقيدة الاسلامية

عذاب القبر

جاء في كتاب الشرح الممتع لزاد المستقنع للشيخ العثيمين رحمه الله في شرح التعوذ من عذاب القبر :

فهل الدَّاعي إذا استعاذ بالله مِن عذابِ القبر؛ يريد مِن عذاب مدفن الموتى، أم مِن عذاب البرزخ الذي بين موته وبين قيام السَّاعة؟

الجواب: يُريد الثاني؛ لأن الإنسان في الحقيقة لا يدري هل يموت ويُدفن، أو يموت وتأكله السِّباع، أو يَحترق ويكون رماداً، قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] فاستحضر أنك إذا قلت: «من عذاب القبر» أي: مِن العذاب الذي يكون للإنسان بعد موتِه إلى قيام السَّاعة.

والبحث في عذاب القبر مِن عِدَّة أوجه:

الوجه الأول: بماذا ثبت عذاب القبر؟

الجواب: ثبت بصريح السُّنَّة، وظاهر القرآن، وإجماع المسلمين.

أمَّا صريحُ السُّنَّة: فحديث البَراء بن عَازبٍ وأمثاله، قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «استعيذوا بالله مِن عذابِ القبر، استعيذوا بالله مِن عذاب القبر، استعيذوا بالله مِن عذاب القبر».
وأمَّا إجماع المسلمين: فلأن جميع المسلمين يقولون في صلاتهم: «أعوذُ بالله من عذاب جهنَّم، ومِن عذاب القبر»، حتى العامَّة الذين ليسوا من أهل الإجماع، ولا من العلماء.
وأما ظاهر القرآن: فمثل قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *} [غافر] قال: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ثم قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ولا شَكَّ أن عَرْضهم على النَّارِ مِن أجل أن يصيبهم مِن عذابها، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ} [الأنعام: 93] فهم يَشِحُّون بأنفسهم لا يريدون أن تخرج {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] .

فقال: {الْيَوْمَ} «أل» هنا للعهد الحضوري، يعني: اليوم الحاضر الذي هو يوم وفاتهم {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]
وهذا الظَّاهر من القرآن يكاد يكون كالصَّريح؛ لأن الآيتين اللتين ذكرناهما كالصَّريح في ذلك.

الوجه الثاني: هل هو على البدن، أو على الرُّوح، أو عليهما؟

الجواب: الأصلُ أنَّه على الرُّوح؛ لأن الحُكْمَ بعد الموت للرُّوح، والبدن جُثَّة هامدة، ولهذا لا يحتاج البدن إلى إمداد لبقائه، فلا يأكل ولا يشرب، بل تأكله الهوام، لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الرُّوح قد تتَّصلُ بالبَدَنِ فيتعذَّب. واعتمدوا في ذلك على أنَّ هذا قد رُئِيَ حِسًّا في القبر، فقد فُتِحَتْ بعضُ القبور ورُئِيَ أثرُ العذاب على الجسم، وفُتِحت بعضُ القبور ورُئِيَ أثر النَّعيم على الجسم، وقد حدثني بعضُ النَّاسِ أنَّهم في هذا البلد هنا في «عُنَيزة» كانوا يَحْفِرُون لسور البلد الخارجي، فمرُّوا على قَبْرٍ فانفتح اللَّحْدُ فوجدوا فيه ميتاً قد أكلت كَفَنَه الأرضُ، وبقي جسمُه يابساً؛ لكن لم تأكل منه شيئاً، حتى إنهم قالوا: إنهم رأوا لحيته وفيها الحناء، وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك، فتوقَّفوا وذهبوا إلى الشيخ، وكان في ذلك الوقت «عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين» وسألوه فقال: دعوه على ما هو عليه وجنِّبوا عنه، فاحفِروا عن يمين أو يسار.
فبناءً على ذلك قال العلماء: إن الرُّوح قد تتَّصل بالبدن فيكون العذابُ على هذا وهذا، وربما يُستأنس لذلك بحديث البَراءِ بن عازبٍ المتقدِّم الذي قال فيه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن القبرَ ليضيق على الكافر؛ حتى تختلف فيه أضلاعُه»، فهو يدلُّ على أن العذابَ يكون على الجسم؛ لأن الأضلاع في الجسم.

الوجه الثالث: إذا لم يُدفن الميِّت وأكلته السِّباعُ، أو ذرَّته الرِّياحُ، أو سقط في اليَمِّ فأكلته الحيتان. هل يكون عليه عذاب؟

الجواب: نعم، ويكون العذاب على الرُّوح؛ لأن الجسدَ قد زال وتَلِفَ وفَنِيَ، وإنْ كان هذا أمراً غيبيًّا لا أستطيع أن أجزم بأن البدن لا يناله مِن هذا العذاب شيء؛ ولو كان قد فَنِيَ واحترق؛ لأن الأمر الأُخروي لا يستطيع الإنسان أن يقيسه على المشاهد في الدُّنيا.

الوجه الرابع: هل عذابُ القبر دائم، أو منقطع؟.

الجواب: أما إنْ كان الإنسان كافراً ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا طريق إلى وصول النَّعيم إليه أبداً، ويكون عذابُه مستمرًّا، وأما إنْ كان عاصياً وهو مؤمن فإنه إذا عُذِّبَ في قَبْرِه يُعذَّب بقَدْرِ ذنوبه، وربَّما يكون عذابُ ذنوبه أقل مِن البرزخ الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذٍ يكون منقطعاً.

الوجه الخامس: هل يُخفَّفُ عذابُ القبر بالنسبة للمؤمن العاصي؟

الجواب: نعم، قد يُخفَّف؛ لأن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم مرَّ بقبرين فقال: «إنَّهما ليُعذَّبان، وما يُعذَّبان في كبير، بلى إنه كبير، أمَّا أحدهما فكان لا يستبرئ أو قال: لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة»، ثم أخذ جريدةً رطبةً فشقَّها نصفين، فغرز في كُلِّ قبر واحدة، وقال: «لعله يخفَّف عنهما ما لم ييبسا»، وهذا دليل على أنه قد يُخفَّف العذابُ، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذَّبين؟
الجواب: قيل: لأنَّهما تسبِّحان ما لم تيبسا، والتسبيح يخفِّف مِن العذاب على الميِّت، وفرَّعوا على هذه العِلَّة المستنبطة التي قد تكون مستبعدة؛ أنه يُسنُّ للإنسان أن يذهب إلى القبور ويسبِّح عندها مِن أجل أن يخفِّف عنها العذاب.

وقال بعضُ العلماء: هذا التَّعليل ضعيف؛ لأن الجريدتين تسبِّحان، سواء كانتا رطبتين أم يابستين لقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .

وسُمِعَ تسبيحُ الحَصى بين يدي الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أن الحَصى يابس ولا ينمو.

والعِلَّة القريبة: أنَّ الرَّسولَ صلّى الله عليه وسلّم رجا مِن الله عزّ وجل أن يخفِّف عنهما مِن العذاب ما دامت هاتان الجريدتان رطبتين، يعني: أن المدَّة ليست طويلة.

وذلك مِن أجل التَّحذير عن فِعْلِهما؛ لأن فِعْلَهما كبير كما جاء في الرواية: «بلى؛ إنه كبير» أحدهما لا يستبرئ من البول، وإذا كان لا يستبرئ مِن البول صَلَّى بغير طهارة، والثاني يمشي بالنميمة؛ يُفسد بين عباد الله ـ والعياذ بالله ـ ويُلقي بينهم العداوة والبغضاء، فالأمر كبير، وهذا هو الأقرب أنها شفاعة مؤقَّتة تحذيراً للأمة، لا بُخلاً مِن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالشفاعة الدائمة.

ونقول استطراداً: إن بعض العلماء ـ عفا الله عنهم ـ قالوا: يُسَنُّ أن يضع الإنسان جريدة رطبة أو شجرة أو نحوها على القبر ليخفِّف عنه، لكن هذا الاستنباط بعيد جدًّا؛ ولا يجوز أن نصنع ذلك لما يلي:

أولاً: أنه لم يُكشف لنا أن هذا الرَّجل يُعذَّب، بخلاف النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فقد كُشِفَ له عن القبرين.

ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميِّت؛ لأننا ظننَّا به ظَنَّ سوءٍ أنه يُعذَّب، وما يدرينا فلعله يُنَعَّم، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته؛ لوجود سبب مِن أسباب المغفرة الكثيرة، فمات وقد عفا رَبُّ العباد عنه، وحينئذٍ لا يستحقُّ عذاباً.

ثالثاً: أنَّهُ مخالفٌ لهدي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فإنه لم يكن يفعل ذلك في كلِّ قَبْرٍ.

رابعاً: أنَّه مخالفٌ لما كان عليه السَّلف الصَّالح الذين هم أعلمُ النَّاس بشريعة الله، فما فَعَلَ هذا أحدٌ من الصَّحابة رضي الله عنهم.

خامساً: أنَّ الله تعالى قد فَتَحَ لنا ما هو خير منه، فكان النبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام إذا فَرَغَ مِن دفن الميِّت وَقَفَ عليه وقال: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسأل».

الوجه السادس: هل عذاب القبر من أمور الغيب، أم من أمور الشَّهادة؟

الجواب: مِن أمور الغيب، وكم من إنسان في هذه المقابر يُعذَّب، ونحن لا نشعرُ به، وكم جار له مُنعَّم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما في القبور لا يعلمه إلا علاَّم الغيوب، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب، ولولا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرنا به ما علمنا؛ ولهذا لمَّا دَخَلَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة، وعندها امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرتِ أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فارتاعَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «إنَّما تُفْتَنُ يَهُودُ» قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل شعرتِ أنه أُوحي إلي أنكم تُفتنون في القبور» قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بَعْدُ يستعيذُ مِن عذاب القبر.

ولكن قد يُطلع الله تعالى عليه مَنْ شاء مِن عباده، مثل ما أطلع نبيه صلّى الله عليه وسلّم على الرَّجُلين اللذين يعذَّبان، أحدُهما يمشي بالنميمة، والآخر لا يستنزه من البول. والحكمة من جَعْلِهِ من أمور الغيب ما يلي:

أولاً: أنَّ الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين؛ فلو كُنَّا نَطَّلِعُ على عذاب القبور لَمِتنا؛ لأن الإنسان إذا اطَّلع على أنَّ أباه، أو أخاه، أو ابنه، أو زوجه، أو قريبه يُعذَّب في القبر ولا يستطيع فِكَاكَه، فإنه يَقْلق ولا يستريح، وهذه مِن نعمة الله سبحانه.

ثانياً: أنه أستر للميِّت، فهذا الميِّت قد سَتَرَ الله عليه، ولم نعلم عن ذنوبه التي بينه وبين رَبِّه عزّ وجل، فإذا مات وأطلعنا الله على عذابِهِ صار في ذلك فضيحة عظيمة له، ففي سَتْرِه رَحْمةٌ مِن الله بالميِّت.

ثالثاً: أنه قد يَصعُب على الإنسان دَفْنُ الميِّت؛ كما صَحَّ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لولا ألاَّ تدافنوا؛ لسألتُ اللَّهَ أن يسمِعَكم مِن عذاب القبر الذي أسمعُ منه».

رابعاً: أنَّ في ذلك إزعاجاً لأهله وذويه، وربما عُيِّرُوا بذلك وأُهينُوا.

خامساً: لو كان العذاب ظاهراً لم يكن للإيمان به مزيَّة، لأنه يكون مشاهداً، وهو من أمور الغيب التي يُثنى على مَنْ آمن بها، ثم إنَّه قد يحمِلُ النَّاسَ على أن يؤمنوا كلهم؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [غافر: 84] فلو رأى النَّاسُ هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون لآمنوا وما كفر أحد، لأنه أيقن بالعذاب عين اليقين، فكأنه نزل به فلم يكن للإيمان به فائدة. وحِكَمُ الله سبحانه وتعالى عظيمة والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزمُ بخبر الله أكثر مما يجزمُ بما شاهده بعينه، لأن خَبَرَ الله عزّ وجل لا يتطرَّقُ إليه احتمال الوهم ولا الكذب، وما تراه بعينك يمكن أن تتوهمه.
فكم مِن إنسان شَهِدَ أنَّه رأى الهلالَ؛ وإذا هي نجمة. وكم مِن إنسان شَهِدَ أنه رأى الهلال؛ وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه، وهذا وَهْمٌ، وكم مِن إنسان يرى شَبَحاً ويقول: هذا إنسان مقبل؛ وإذا هو جذع نخلة. وكم من إنسان يرى السَّاكن متحرِّكاً والمتحرِّك ساكناً. لكن خبر الله لا يتطرَّق إليه الاحتمال أبداً.
ولهذا نسألُ الله لنا ولكم الثبات. فالمؤمن يُوقن بخبر الله أشدَّ مما يراه في عينه مِن قَبوله والإيمان به.

أعاذني الله وإياكم من عذاب القبر ومن أهوال يوم القيامة




جزاكم الله خيرا




اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم عبيد الله
تعليمية
جزاكم الله خيرا
اللهم أمين وإياكم




بارك الله فيكم
ربنا عافنا من عذاب القبر




اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة om_hammam تعليمية
بارك الله فيكم
ربنا عافنا من عذاب القبر

وفيكم بارك الله

اللهم آمين




تعليمية




وفيك بارك الله أخي أيوب




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.