التصنيفات
اسلاميات عامة

سلسلة العـلم و أثره في تزكية الـنُّـفوس5

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد
أيّها الإخوة الكرام : تزكية النُّـفوس كما يقول ابن القيمرحمه الله تعالى في كتابه _ مدارج السالكين _ : ( أمرها مُسلّم إلى الرسل عليهم الصلاة و السلام و إنّما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إيّاها و جعلها على أيديهم دعوةً و تعليماً و بيانا و ارشادا لا خلقاً ولا إلهاماً ، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم ) .
قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ، و قال تعالى : (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ )

يقولسفيان ابن عيينه رحمه الله :( إنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم هو الميزان الأكبر وعليه تُعرض الأشياء ، على خُلقه وسيرته وهديه ، فما وافقها فهو الحق ، وما خالفها فهو الباطل )هذا أيّها الإخوة ميزان دقيق و مهم للغاية في باب تزكية النّفس .

تزكية النَّـفس ليس أمرا مُسلما للإنسان يزكي نفسه بأي طريقة شاء و بأي سبيل أراد . لا . بل لابد في باب تزكية النّفس من وزنِ الأعمال بما جاء عن النبي الكريم عليه الصلاة و السلام ، فَخلُقه و سيرته و هديه صلى الله عليه و سلم مِيزان تُعرض عليه الأعمال و تُقاس عليه الأمور ، و ليس للإنسان أنْ يتخِذَ لنفسه ما شاء من الأمور أو الوسائل التي يزعُم أنّها تُـزكي نفسه .

و لهذا يقول ابن القيم رحمه الله : ( تزكية النُّفوس أصعب من علاج الأبدان و أشـد ، فمن زكّي نفسه بالرياضة و المجاهدة و الخَلوة ، التي لم يجئ بها الرسل( يعني جاء بأعمال و طرق يزعم أنّها تزكي النّـفس لكن لم تأتي على الرسل عليهم الصلاة و السلام )فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه ، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب ؟ ) فالرّسل أطباء القلوب ، فلا سبيل إلى تزكيتها و صلاحها إلّا من طريقهم و على أيديهم و بمحض الإنقياد والتسليم لهم و الله المستعان .

بعض النَّاس يظن في هذا الباب أنَّ التزكية تكون بالتّشديد على النَّفس و القسوة عليها ، و حرمان النَّفس من حقُـوقها التي فطر الله سبحانه و تعالى النّفوس على الإحتياج اليها ، قد قال عليه الصلاة و السلام :( و لنفسك عليك حق )فبعض النَّاس يظن أنَّ تزكيته لنفسه تكون بحرمان النَّفس من حقوقها المباحة أو بالقسوة على النَّفس و الشّدة عليها أو بالرّعونة و نحو ذلك من التّصرُفات التي يظن أنّه بمثل هذه المسالك يزكّي نفسه ، و هيهات أن تكون تزكية النَّـفس بمثل ذلك .

فتزكية النَّفس لا تكون لا بالإفراط و لا أيضا بالتفريط ، لا تكون لا بالزيادة و لا بالتقصير ، بل تكون بالتّـوسط و الإعتدال و ذلك بلزوم هدي النبي صلى الله عليه و سلم و نهجِه القويم صلوات الله و سلامه و بركاته عليه .

فلا بُـد من الوسطية و الإعتدال في باب تزكية النَّـفس مطلوبة بالدليل ، لكن تتفاوت في المسالك ، فمن النّـاس من يريد أن يزكي نفسه بالتّشديد و التعزير و القسوة على النّفس و في الحديث : ( إنّ هذا الدين يسر ولنْ يُشاد الدّين أحد إلا غلبه فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا ) و من النّاس من يزكّي نفسه بوسائل و طرائق لا أصل لها و لا أساس ، فالنّاس في هذا الباب بين افراط و تفريط ، و خِيارُ الأمور أوساطُها لا تفريطها و لا إفراطها .

يقولابن القيمرحمه الله في – مدارج السالكين – : (فإنَّ النّفس متى انحرفت عن التوسط ، انحرفت إلى أحد الخُلقين الذميمين و لا بُد ، فإذا انحرفت عن خلق التواضع: انحرفت إما إلى كبر و علو ، وإما إلى ذلّ و مهانة و حقارة وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت : إمّا إلى قِحَةٍ وجُرأة ، وإمّا إلى عجـزٍ وخور ومهانة ، و كذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت إمّا إلى جزع و هلع وإمّا إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجـر طبع ، وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت : إمّا إلى طيش أو إلى مهانة و حقارة وإذا انحرفت عن خلقالأناة والرفق انحرفت : إمّا إلى عجلة وطيش وعنف أو إلى تفريط وإضاعة ، وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله لأهل الإيمان انحرفت : إمّا إلى كِبر وإمّا إلى ذُل ، وإذا انحرفت عن خلقالشّجاعة انحرفت : إما إلى تهور وإقدام غير محمود أو إلى جبن وتأخر مذموم ) ، و هكذا نجد أنَّ النّفس إذا خرجت في باب التزكية عن حدّ الإعتدال والتّـوسط الذي كان عليه نبينا صلى الله عليه و سلم تنحرف إلى جانبين كلاهما مذموم و خِيار الأمور أوساطها لا تفريطها و لا إفراطها .

و يجب أنْ يُعلم في هذا الباب أنَّ خير العمل ما كان لله أطوع و لصاحبه أنفع و قد يكون ذلك أيسر العملين و قد يكون أشدُّهُما ، فليس كل شديد فاضلا ولا كل يسير مفضولا .

بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد فإننا نأمر به بما فيه من المنفعة لا لمجرد تعذيب النّفس . و قد قال عليه الصلاة و السلام : ( إنّما بُعِثتُم ميسرين و لم تُبعثوا معسّرين )و قال
لمعاذ و أبي موسى لما بعثهما إلى اليمن :( يسرا و لا تعسرا ، و بشِّرا و لا تُنفرا )، و قال عليه الصلاة و السلام : (هذا الدين يسر ولنْ يشادّ الدين أحد إلا غلبهُ )، و قال عليه الصلاة و السلام :( أحبُّ الدين إلى الله الحنيفية السّمحاء )، و الشيطان له مداخل في هذا الباب عندما يرى الإنسان قد أقـبل على تزكية النّـفس إمّا أنْ يدخله في باب تشديد و تحقير على النَّفس ، بترك المباحات و تعذيب النفس بقلة المرأى ، يـُـفشل البدن ، المنع من المباحات ، أو ينقل الإنسان نقلة أخرى بعيدا يحرفه من خلالها عن الصواب و السداد .

و الواجب على المسلم في هذا الباب باب تزكية النّفس و في كل باب أنْ يُلزم نفسه بشرع الله و دينه الثّابت عن رسوله صلوات الله و سلامه عليه ، و أنْ يحذر من كلِ طريق و سبيل لا أصل له في شرع الله عز وجل .

ثُم أيّها الإخوة الكرام : يَحتاج العبد في هذا المقام مقامِ تزكية النّـفس إلى أمر مهم للغاية لا بد من التأكيد عليه و هو : أنْ يكون على ذكر دائم للوقوف بين يدي الله و المجازات و المحاسبة ، و قد قال الله عـزّ و جل : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ )و لتنظر نفس ما قدمت لغد ، وقال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ)و من أواخر ما نزل على نبينا عليه الصلاة و السلام قول الله تعالى : (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ )، و في الحديث و في سنده مقال و لكن معناه صحيح لا ريب في صحة معناه : ( الكيس من دان نفسة وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتْـبع نفسهُ هواها وتنمى على الله الأماني )
الكيس :أي اللّبيب الفطن الذي يحاسب نفسه و يُعِـدها لما بعد الموت ، يُعدها للقاء الله سبحانه و تعالى ، و العاجز من أتْبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني .

ثُمّ أمرٌ أخير أختم به ألا و هو أيّها الإخوة : ينبغي على من أكرمَه الله عزّ و جل بالإستقامة ووفقه للرّعاية لنفسه و العناية بها أن يذكُر دائما أن هذا محضُ فضل الله عليه و مَـنّه سبحانه و تعالى ، و أنّه لولا فضل الله عليه لما استقام و لَمَا اهتدى ، فيحذر في هذا المقام من أن ينظر إلى نفسه نظر الإعجاب أو الثناء على نفسه أو التزكّية لها و الله يقول : ( فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )و يقول : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ )، فإذا أكرم الله سبحانه و تعالى عبده ، ووفقه لسلوكِ طريق الهِداية و لزوم سبيل الإستِقامة ، فعليه أنْ يذكر أنَّ هذا محضُ فضل الله و منّه عليه .
فلا ينظر إلى نفسه نظر إعجاب ، بل يكونُ حامدا ، شاكرا ، مُثنيا على مولاه سبحانه و تعالى ، و قد ذكر الله جل و علا في صفات المؤمنين الكُمّل فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)أي : يقدمون ما يقدمون من طاعات و عبادات و قلوبهم خائفة .

و جاء في المسند أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت النبي عليه الصلاة و السلام عن معنى هذه الآية الكريمة ، و قالت : (يا رسول الله أهُـوَ الرجل يزني ويسرق و يقتل و يخاف أن يعذب ؟ قال لا يا ابنة الصديق ، و لكنّه الرجل يصلي و يصوم و يتصدق و يخاف أن لا يُقبل منه )، و لهذا قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : ( إنَّ المؤمن جمع بين إحسان و مَخافة ، و المنافق جمع بين إساءة و أمن )، المؤمن يحسن في العمل و يخاف ، و المنافق يسئ في العمل وآمن .

فالواجب على المسلم أنْ يُجاهد نفسه على تقوى الله سبحانه و تعالى و نيل رضاه ، و أنْ ينظر إلى نفسه دائما نظـر التقصير و التفريط ، و يلُـوم نفسه على تقصيرها و تفريطها ، و يجاهد نفسه على البعد عن الذّنوب و الآثام التي تحرمه من الخير و تحُـول بينه و بين نيل الفضائل و الخيرات و البركات في الدنيا و الآخرة ، و يكُون مُقبلا على ربّهِ سبحانه ، يرجوا رحمته و يخاف عذابه ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) .

و أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم بأسمائه الحسنى و صفاته العليا ، و بأنَّهُ الله الذي لا إله إلّا هو ، الذي وسع كل شئ رحمة و علما أن يوفقنا جميعا لكل خير ، و أن يصلح لنا شأننا كله ، و أن يغفر لنا و لوالدينا ، و لمشايخنا و للمسلمين و المسلمات و المؤمنين و المؤمنات الأحياء منهم و الأموات ، اللّهم آتِ نفوسنا تقواها و زكّها أنت خير من زكّاها أنت وليها ومولاها ، اللّهم أعِـنَّا ولا تُـعن علينا وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر علينا وأهدنا ويسر الهدى لنا وانصرنا على من بغى علينا ، اللّهم اجعلنا لك شاكرين لك ذاكرين إليك أوّاهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين، اللّهم تقبّل توبتنا واغسل حوبتنا ، و ثبت حُجّتنا ، و اهدِ قلوبنا و اسلل سخيمة صدورنا ، اللّهم و أصلح ذات بيننا و ألف بين قلوبنا ، واهدنا سُبُل السّلام ، و أخرجنا من الظلمات إلى النور ، و بارك لنا في أسماعنا و أبصارنا ، و أزواجنا و ذرّياتنا ، و أموالنا و أوقاتنا و اجعلنا مباركين أينما كنّا ، اللّهم آمنّا في أوطاننا و أصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللّهم وفق ولاة أمرنا لكل خير و اهدهم يا حي يا قيوم لما تحبه و ترضاه من سديد الأقوال و صالح الأعمال ، اللّهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، و أصلح لنا شأننا كله لا إله إلّا أنت ، و الحمد لله أولا و آخرا ، و له الشُّكر ظاهرا و باطنا ، و صلى الله و سلم و بارك و أنعم على عبده و رسوله نبينا محمد و آله و صحبه أجمعين.


وفي الأخير لا تنسوني اخواني بصالح دعائكم بالتوفيق ومغفرة الذنوب وستر العيوب والاعانة على علاجها، مع حسن الخاتمة وسرور المقدم على الله الغفورالرحيم .




جزاك الله خيرا .جعل الله مجهودك في ميزان حسناتك وصالح اعمالك .




أاامين، بارك الله فيك.




اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو جمانة
تعليمية


وفي الأخير لا تنسوني اخواني بصالح دعائكم بالتوفيق ومغفرة الذنوب وستر العيوب والاعانة على علاجها، مع حسن الخاتمة وسرور المقدم على الله الغفورالرحيم .

نَسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضاه ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ويُعيننا على طاعته ويُثبتنا على الحق ويُحسن خَواتمنا فهو ولي ذلك والقادر عليه لا إله إلا هو رب العرش العضيم




اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابو سليمان تعليمية
نَسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضاه ولا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ويُعيننا على طاعته ويُثبتنا على الحق ويُحسن خَواتمنا فهو ولي ذلك والقادر عليه لا إله إلا هو رب العرش العظيم

اللهم أاامين.




ا شكرا لك ننتضر جديدك




جزاك الله كل خير




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.