[سؤال] قال تعالى{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } — أل عمران : 54 قال تعالى{ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)} — النمل : 50 قال تعالى{ واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } — الأنفال : 30 قال تعالى { افامنوا مكر الله فلا يامن مكر الله الا القوم الخاسرون. } – الأعراف : 99 مالمقصود بمكر الله ؟ |
||
وقوله تعالى: { والله خير الماكرين} معناه الله تعالى أقوى في إيصال الضرر إلى الماكرين من حيث لا يشعرون لأن المكر من العباد هو خبث وخداع لإيصال الضرر إلى الغير بطريقة خفيّة، أمّا الله عزّ وجل فلا يُضاف إليه على هذا المعنى لأن هذا المعنى لا يليق بالله.
أتمنى أن يكون الرد في محلو
لقد فصل في هاته المسألة الشيخ العثيمين رحمه الله إثر شرحه للعقيدة الواسطية فقال : وقوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}, وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}, وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}, وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} ذكر المؤلف رحمه الله ثلاث صفات متقاربه في أربع آيات: المحال, والمكر.
الآية الأولى:في المحال, وهي قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [سورة الرعد: 13]. أي: شديد الأخذ بالعقوبة. وقيل: إن المحال بمعنى المكر؛ أي: شديد المكر, وكأنه على هذا التفسير مأخوذ من الحيلة وهي أن يتخيل بخصمه حتى يتوقع به. وهذا المعنى ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله؛ لأنه ذكرها في سياق آيات المكر والكيد.
والمكر؛ قال العلماء في تفسيره: إنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن تفعل أسباباً خفية فتوقع بخصمك وهو لا يحص ولا يدري، ولكنها بالنسبة لك معلومة مدبرة.
والمكر يكون في موضع مدحاً ويكون في ذماً: فإن كان في مقابلة من يمكر؛ فهو مدح؛ لأنه يقتضي أنك أنت أقوى منه. وإن كان في غير ذلك؛ فهو ذم ويسمي خيانة. ولهذا لم يصف الله نفسه به إلا على سبيل المقابلة والتقييد؛ كما قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50], {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30]، ولا يوصف الله سبحانه وتعالى به على الإطلاق؛ فلا يقال: إن الله ماكر ! لا على سبيل الخبر, ولا على سبيل التسمية؛ ذلك لأن هذا المعنى يكون مدحاً في حال ويكون ذماً في حال؛ فلا يمكن أن نصف الله به على سبيل الإطلاق.
فأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]؛ فهذا كمال؛ ولهذا لم يقل: أمكر الماكرينبل قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}؛ فلا يكون مكره إلا خيراً, ولهذا يصح أن نصفه بذلك؛ فنقول: هو خير الماكرين. أو نصفه بصفة المكر في سبيل المقابلة؛ أي: مقابلة من يمكر به، فنقول: إن الله تعالى ماكر بالماكرين؛ لقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}.
الآية الثانية: في المكر, وهي قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة آل عمران: 54]. هذه نزلت في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, مكر به اليهود ليقتلوه, ولكن كان الله تعالى أعظم منهم مكراً, رفعه الله، وألقى شبهه على أحدهم، على الذي تولى كبره وأراد أن يقتله, فلما دخل عليه هذا الذي يريد القتل, وإذا عيسى قد رفع,فدخل الناس, فقالوا: أنت عيسى ! قال: لست عيسى ! فقالوا: أنت هو! لأن الله تعالى ألقى عليه شبهه، فقتل هذا الرجل الذي كان يريد أن يقتل عيسى بن مريم؛ فكان مكره عائداً عليه، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
الآية الثالثة: في المكر أيضاً, وهي قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} {النمل: 50}. هذا في قوم صالح, كان في المدينة التي كان يدعو الناس فيها إلى الله تسعة رهط-أي: أنفار – {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]؛ يعني: لنقتلنه بالليل,{ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]؛ يعني: أنهم قتلوه بالليل؛ فما يشاهدونه. لكن مكروا ومكر الله ! قيل: إنهم لما خرجوا ليقتلوه، لجؤوا إلى غار ينتظرون الليل؛ انطبق عليهم الغار, فهلكوا، وصالح وأهله لم يمسهم سوء, فيقول الله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً}.
{وَمَكَرُوا}: في الموضعين منكرة للتعظيم؛ أي: مكروا مكراً عظيماً، ومكرنا مكراً أعظم.
الآية الرابعة: في الكيد, وهي قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15-16].
{إِنَّهُمْ}؛ أي: كفار مكة، {يَكِيدُونَ} للرسول صلى الله عليه وسلم {كَيْداً} لا نظير له في التنفير منه ومن دعوته, ولكن الله تعالى يكيد كيداً أعظم وأشد. {وَأَكِيدُ كَيْداً}؛ يعني: كيداً أعظم من كيدهم. ومن كيدهم ومكرهم ما ذكره الله في سورة الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]: ثلاثة آراء.
1- {لِيُثْبِتُوكَ}؛ يعني: يحبسوك.
2- {يَقْتُلُوكَ}؛ يعني: يعدموك.
3- {يُخْرِجُوكَ}؛ يعني: يطردوك
وكان رأي القتل أفضل الآراء عندهم بمشورة من إبليس؛ لأن إبليس جاءهم بصورة شيخ نجدي, وقال لهم: انتخبوا عشرة شبان من عشر قبائل من قريش, وأعطوا كل واحد سيفاً ثم يعمدون إلى محمد صلى الله عليه وسلم, فيقتلونه قتلة رجل واحد, فيضيع دمه في القبائل؛ فلا تستطيع بنو هاشم أن تقتل واحداً من هؤلاء الشبان وحينئذ يلجؤون إلى الدية, فتسلمون منه. فقالوا: هذا الرأي!! وأجمعوا على ذلك. ولكنهم مكروا مكراً والله تعالى يمكر خيراً منه؛ قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]؛ فما حصل لهم الذي يريدون ! بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج من بيته، يذر التراب على رؤوس العشرة هؤلاء، ويقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، فكانوا ينتظرون الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج، فخرج، من بينهم، ولم يشعروا به. إذاً، صار مكر الله عز وجل أعظم من كرهم، لأنه أنجى رسوله منهم وهاجر.
قال هنا: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15-16]، والتنكير فيها للتعظيم، وكان كيد الله عز وجل أعظم من كيدهم.
وهكذا يكيد الله عز وجل لكل من انتصر لدينه، فإنه يكيد له ويؤيده، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76]، يعني: عملنا عملاً حصل به مقصوده دون أن يشر به أحد.
وهذا من فضل الله عز وجل على المرء، أن يقيه شر خصمه على وجه الكيد والمكر على هذا الخصم الذي أراد الإيقاع به.
فإن قلت: ما هو تعريف المكر والكيد والمحال؟.
فالجواب: تعريفها عند أهل العلم: التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن توقع بخصمك بأسباب خفية لا يدري عنها.
وهي في محلها صفة كمال يحمد عليها وفي غير محلها صفة نقص يذم عليها.
ويذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بارز عمرو بن ود-والفائدة من المبارزة أنه إذا غلب أحدهما أنكسرت قلوب خصومه-فلما خرج عمرو؛ صرخ علي: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت عمرو, فلما التفت؛ ضربه علي رضي الله عنه على رقبته حتى أطاح برأسه1! هذا خداع, لكنه جائز، ويحمد عليه؛ لأنه في موضعه؛ فإن هذا الرجل ما خرج ليكرم علي بن أبي طالب ويهنئه، ولكنه خرج ليقتله؛ فكاد له علي بذلك.
والمكر والكيد والمحال من صفات الله الفعلية التي لا يوصف بها على سبيل الإطلاق؛ لأنها تكون مدحاً في حال, وذماً في حال؛ فيوصف بها حين تكون مدحاً, ولا يوصف بها إذا لم تكن مدحاً؛ فيقال: الله خير الماكرين، خير الكائدين، أو يقال: الله ماكر بالماكرين، خادع لمن يخادعه.
والاستهزاء من هذا الباب؛ فلا يصح أن نخبر عن الله بأنه مستهزئ على الإطلاق؛ لأن الاستهزاء نوع من اللعب, وهو منفي عن الله؛ قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38]، لكن في مقابلة من يستهزئ به يكون
كمالاً؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]؛ قال الله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15].
فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه المعاني لله عز وجل على سبيل الحقيقة.
لكن أهل التحريف يقولون: لا يمكن أن يوصف بها أبداً, لكن ذكر مكر الله ومكرهم من باب المشاكلة اللفظية، والمعنى مختلف؛ مثل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119].
ونحن نقول لهم: هذا خلاف ظاهر النص, وخلاف إجماع السلف. وقد قلنا سابقاً: إذا قال قائل: أئت لنا بقول لأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي يقولون فيه: إن المراد بالمكر والاستهزاء والخداع الحقيقة!
فنقول لهم: نعم؛ هم قرؤوا القرآن وآمنوا به, وكونهم لم ينقلوا هذا المعنى المتبادر إلى معنى آخر؛ يدل على أنهم أقروا به، وأن هذا إجماع، ولهذا يكفينا أن نقول في الإجماع: لم ينقل عن واحد منهم خلاف ظاهر الكلام، وأنه فسر الرضى بالثواب, أو الكيد بالعقوبة…. ونحو ذلك.
وهذه الشبهة ربما يوردها علينا أحد من الناس؛ يقولون: أنتم تقولون: هذا إجماع السلف؛ أين إجماعهم؟
نقول: عدم نقل ما يخالف ظاهرها عنهم دليل الإجماع.
ما نستفيده من الناحية المسلكية في إثبات صفة المكر والكيد والمحال:
المكر: يستفيد به الإنسان بالنسبة للأمر المسلكي مراقبة الله سبحانه وتعالى، وعدم التحيل على محارمه, وما أكثر المتحيلين على المحارم! فهؤلاء المتحيلون على المحارم، إذا علموا أن الله تعالى خير منهم مكراً، وأسرع منهم مكراً؛ فإن ذلك يستلزم أن ينتهوا عن المكر.
ربما يفعل الإنسان شيئاً فيما يبدوا للناس أنه جائز لا بأس به، لكنه عند الله ليس بجائز, فيخاف, ويحذر.
وهذا له أمثلة كثيرة جداً في البيوع والأنكحة وغيرهما:
مثال ذلك في البيوع: رجل جاء إلى آخر؛ قال: أقرضني عشرة آلاف درهم. قال: لا أقرضك إلا بأثني عشر ألف وهذا رباً وحرام سيتجنبه لأنه يعرف أنه رباً صريح لكن باع عليه سلعة بأثنى عشر ألفاً مؤجلة إلى سنة بيعاً تاماً وكتبت الوثيقة بينهما، ثم إن البائع أتى إلى المشترى, وقال: بعنية بعشرة ألاف نقداً. فقال: بعتك إياه. وكتبوا بينهما وثيقة بالبيع!
فظاهر هذا البيع الصحة، ولكن نقول: هذه حيلة؛ فإن هذا لما عرف أنه لا يجوز أن يعطيه عشر ألفاً؛ قال: أبيع السلعة عليه باثني عشر، وأشتريها نقداً بعشرة.
ربما يتسمر الإنسان في هذه المعاملة لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيئاً لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيء لكنها عند الله تحيل على محارمه, وقد يملي الله تعالى لهذا الظالم, حتى إذا آخذه لم يفلته؛ يعني: يتركه ينمو ماله ويزداد وينمو بهذا الرباء لكن إذا أخذه لم يفلته؛ وتكون هذه الأشياء خسارة عليه فيما بعد, وماله إلى الإفلاس, ومن الكلمات المشهورة على ألسنة الناس: من عاش في الحيلة مات فقيراً.
مثال في الأنكحة: امرأة طلقها زوجها ثلاثاً؛ فلا تحل له إلا بعد زوج، فجاء صديق له، فتزوجها بشرط أنه متى حللها –يعني: متى جامعها –طلقها, ولما طلقها؛ أنت بالعدة, وتزوجها الأول؛ فإنها ظاهراً تحل للزوج الأول، لكنها باطناً لا تحل؛ لأن هذه حيلة.
فمتى علمنا أن الله أسرع مكراً, وأن الله خير الماكرين؛ أو جب لنا ذلك أن نبتعد غاية البعد عن التحيل على محارم الله.
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(1/577- الطبعة الجديدة/ مكتبة المعرف) للشيخ الألباني.