العصبية عند ابن خلدون

أثر العصبة على الدولة عند إبن خلدون

كنت أبحث عن مادة ما على الأنترنت , فعثرت صدفة على كلمات مكتوبة عن إبن خلدون في موسوعة ويكبيديا الألكترونية . جاء في السطر السابع من الكلام (( قدم نظريات كثيرة جديدة في علمي الإجتماع والتأريخ ، بشكل خاص في كتابيه : العبر والمقدمة )) , ولست أدري من أي تخصص هو محرر هذه الصفحة من الموسوعة الذي أظنه لا يعرف شيئا عن إبن خلدون البتة , لأنه لو كان يعرف لما تجرأ على تجزئة كتاب واحدا لإبن خلدون , بتقديمه لنا على أنه كتابين .
عندما كنت في العراق , قرأت الكتاب على شكل ( مخطوطة ) يزيد عمرها على مائة سنة في دار ( صدام ) للمخطوطات الواقع في بيت توفيق السويدي الأثري في مدخل شارع حيفا في الركن المقابل لمبنى الإذاعة والتلفزيون . ولذلك سأقوم بعرض الكتاب مسلطة الضوء على دور العصبة عند إبن خلدون في بناء الدولة وتأسيسها في مرحلة التأسيس , ثم تخريب الدولة وتشكيل أول علامات إنهيارها فيما يلي ذلك من مراحل .
عنوان المخطوطة هو : ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن لف لفهم من السلطان الأكبر) .
وفي نسخ أخرى ( ومن شابههم من السلطان الأكبر ) .
يتضمن الكتاب جزأين هما : المقدمة , ومتن الكتاب .
أشتهرت المقدمة لأنها تحوي حكايات كثير من الأمم التي تحدث عنها إبن خلدون بإسهاب يشبه الرواية ويتضمن حكايات المكائد والدسائس والحيل التي أنشأت دولا أو أبادت دول , ولهذا وجد الناس فيها من غير المتخصصين بدراسة التاريخ متعة كبيرة . لكنهم حين يصلون الى متن الكتاب الذي لا يزيد على عدة صفحات , فيها ( العبر ) أو القانون الذي إستخلصه إبن خلدون من قراءته وتمحيصه لتلك القصص , عن كيفية نشوء دولة ما ثم إنهيارها , فإنهم يتوقفون عن القراءة , لأن متن الكتاب مادة جافة نظرية ليس فيها إمتاع مقدمة الكتاب . ولهذا السبب إشتهرت مقدمة إبن خلدون أكثر من الكتاب الذي يحويها .
تعتبر نظرية إبن خلدون هذه نظرية عضوية , بمعنى أنه ينظر للدولة على أنها كائن حي , يبدأ طفلا ثم يشب ويشيخ ويموت , ولا توجد لديه دولة خالدة .
نظريته تسمى بنظرية الحقب . الحقبة تساوي عنده أربعين عاما , أقل قليلا أو أكثر قليلا . كل دولة عنده تتكون من ثلاث حقب :
حقبة النشأة أو حقبة البداوة .
حقبة الإزدهار أو حقبة الدولة .
حقبة الإضمحلال أو حقبة الإنهيار .
المجتمع عند إبن خلدون يبدأ أولا من ( بداوة ) والبداوة عنده هي عبارة عن مجموع من البشر يعيشون على بقعة من الأرض لاتوجد لديهم حكومة وليس لديهم قانون , ولهذا يحكم قويهم ضعيفهم بالجور . حين يقع الجور بين الناس تضيع حقوق كثيرة , فتنشأ الحاجة الى حكومة قوية تملك قانونا خاصا يسري على الكل ويتوحد به المجتمع وتزول به تلك المظالم .
عندها يظهر من يسميه إبن خلدون ( شيخ ) يدعو الى تغيير المجتمع وتأسيس حياة جديدة , هذا الشيخ قد يكون نبيا داعيا الى دين جديد فيلتف حوله المؤمنون به ويدعون ( عصبته ) , أو يكون الشيخ رئيس عشيرة فيلتف حوله أبناء عشيرته فيشكلون عصبته , أو يكون داعية يدعو الى تصحيح قانون ما فيلتف حوله جماعة من الناس يؤمنون بفكرته فيشكلون عصبته أو ( حزبه ) .
( العصبية ) هي الفكرة التي ستنضم هذه العصبة للإلتفاف حول هذا الشيخ وهي أي العصبية قد تكون دينا جديدا او قانونا جديدا او عرفا جديدا سيسير عليه مجتمع البداوة منذ لحظة التغيير والدخول في مرحلة ( دولة ) .
إذا كانت الحاجة الى هذا الشيخ وعصبته وعصبيته ( من أجل القيام بالتغيير ) حاجة داخلية ماسة تنبع من إحتياجات تلك ( البداوة ) نفسها وهي ليست مفروضة بعوامل خارجية قادمة من سلطة ما أو قوة ما من خارج تلك البداوة , فإن الشيخ وعصبته سيحتاجون الى أربعين عاما أقل قليلا أو أكثر قليلا , من أجل القتال أو الجهاد أو النضال أو الدعوة الى الإيمان , أو أيا ما تكن التسميات التي تعني تحركهم داخل بداوتهم من أجل لم أجزائها وتحويلها من بداوة الى ( دولة ) .
حين تتأسس الدولة سيتحول ( الشيخ ) الى رئيس لتلك الدولة , أو ملكها او أميرها أو أيا ما تكن التسمية التي سيختار إطلاقها على نفسه .
أما ( عصبته ) فسيصير أسمهم : حزبه أو آل بيته أو دعاته أو المؤمنون به , هذه التسمية تنبثق عن الطريقة التي تشكلوا بها حوله منذ بداية ظهوره .
أما ( العصبية ) فستكون هي قانون الدولة الجديدة ونظامها . ويمكن ان تكون له تسميات أخرى , دينه مثلا أو عرفه أو دستوره .
منذ الآن علينا أن ننظر بتمعن الى أفراد العصبة , وذلك للدور الخطير الذي سيلعبونه في المرحلة المقبلة .
حين ندخل مرحلة الدولة فإننا سنجد **** الشيخ ناس عاديون , لا يختلفون عن اي بشر آخرين في المجتمع بغير كونهم صدقوا الشيخ وكانوا أول من إلتف حوله , ومن قاتلوا معه من أجل الخروج بمجتمعهم من طور بداوته الى طور دولته . كل هذا يمنحهم قيمة إعتبارية تجعلهم أقرب الى ( شيخهم ) رئيس الدولة , من بقية الناس , وهذا هو كل إمتيازهم عن غيرهم , الذي سيجعل السلطان أو أيا ما تكون تسميته , يختار خاصته ووزرائه وكتابه منهم دون غيرهم , فيمنحون حظوة تميزهم عن الناس لكنها لاتجعلهم بمنزلة السلطان نفسه .
عندما تنشأ الدولة فإنها ستعمد الى إزالة المظالم وذلك بأخذ الحق ممن يحملونه وإعادته الى اصحابه الشرعيين وفي هذه المرحلة ستؤسس الدولة أول خصومها المستقبليين , الذين ربما ينشأ منهم من سيحاربها مستقبلا .
الخطوة التالية ,, أنها ستنشر التعليم من أجل نشر مبادئها ,, فيتعلم الناس وبخاصة الشباب لتتكون منهم طبقة من العمال والصناع والحرفيين الذين يؤسسون المعامل والصناعات التي تلبي حاجات المجتمع من البضائع من ناحية , وتؤدي الى تكدس الأموال بيد الدولة والأفراد من ناحية ثانية , فيعم الشبع ويعتنى بالصحة وتستقر نفوس الناس , ويبدأون بنسيان بداوتهم والتنعم بالنعمة .
في هذه المرحلة ستبنى مؤسسات الدولة , ويبنى حسب قول إبن خلدون ( قصر السلطان ) وهو أعلى قصور الدولة , تتخلف عنه قصور ( عصبته ) التي هي عادة أعلى من قصور عامة الناس .

بعض من سيثرون ثراءا كبيرا من بين عامة الناس , سيسعون ( وهذه طبيعة بشرية ) للإستيلاء على مايحبونه وهو ليس لهم .
كيف يتم لهم ذلك ؟ …. بواسطة المال .
ولمن سيدفعون المال ؟ … سيدفعونه الى البعض من ( **** السلطان ) الذين وهم في صراعهم مع غيرهم من أعضاء ( العصبة ) على التطاول في البنيان والتقرب من السلطان سيكونون مضطرين الى أخذ الرشوة .
أخذ الرشوة في هذه المرحلة : هي الحركة رقم واحد في بداية إنهيار الدولة .لأن بواسطتها ستضيع الحقوق , ومتى ما ضاعت الحقوق خربت المصالح , وحين تخرب المصالح يقل النعيم ويزداد الفقر , وحين يزداد الفقر تضيع الصحة , وتخرب الذمم , عندها يبدأ الإعتداء على المال العام , فتخرب مؤسسات الدولة ومدارسها ومستشفياتها , وتسقط قيمة العملة , ويبدأ المجتمع بالتحول من الإزدهار الى الإنهيار .
على النقيض من ذلك وفي نفس الفترة الزمنية , يبدأ أفراد **** السلطان بالتنافس فيما بينهم تقربا الى السلطان وتطاولا في البنيان , حتى ليكادون يعلون ارتفاع السلطان نفسه .
ذات يوم يتنبه السلطان الى خراب حال المجتمع , ويندهش الى المدى الذي قارب فيه بعض عصبته بنيانه , ويبدأ الخوف على نفسه , إذ أن الخطوة التالية لأحد افراد هذه العصبة الطموحة ستكون لا محالة , هي الإطاحة بالسلطان والإستيلاء على عرشه .
عندها يقرر السلطان أسوأ قرار ممكن له أن يتخذه في حياته , وهو الإطاحة بعصبته وتقريب من يسميهم إبن خلدون ( الموالي ) .
ليس شرطا أن يكون الموالي بشرا من خارج البلد يستعان بهم على إدارته , لكن السلطان مثلا وهذا المثل من عندي : قد يضرب أفراد الحزب الذي أوصله الى الحكم , ويقرب عوضا عنهم أفراد عشيرته .
عندما يتسلم أفراد العشيرة مناصب الدولة في زمن خراب المجتمع , سيكون عليهم القيام بدورين في وقت واحد . إصلاح المجتمع , وبناء مجدهم الشخصي .
وحيث أن بناء مجدهم الشخصي سيكون أقرب إلى نفوسهم من عملية إصلاح المجتمع التي ربما دخلت في أطوار عسيرة ,, فإنهم سيقومون ومن أجل المجد الشخصي بدور تخريبي في حياة المجتمع أكبر مما كان أفراد الحزب يقومون به من تخريب .
وهكذا سنجد أن ما سلم من يد ( العصبة ) فإنه لن يسلم من يد ( الموالي ) عندها تبدأ دوامات الإنهيار بلف المجتمع الى مستويات دنيا حتى تضيع أبسط مقوماته , عندها يتنبأ إبن خلدون للمجتمع في هذه المرحلة بواحد مما يلي :
_ وباء يقتل الغالبية العظمى ويعيد المجتمع الى بداوته الاولى .
_ فيضان يغرق البلد ويعيده الى بداوته الاولى .
_ جماعة من المنادين بحقوق أخذتها منهم الدولة عند تأسيسها , يشكلون قوة تقلب الحكم , وتعيد تنظيم المجتمع حسب قانون جديد .
_ ضعف السلطة المركزية للسلطان يجعل الأقاليم تنشق عنه بقوانينها الخاصة وحكوماتها الجديدة .
_ وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك , فالدولة ستكون من الضعف بحيث أنها ستكون مطمحا الى دولة غازية , تسقط حكومتها وتستولي على الأرض والثروات , ومقدرات الناس .




اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Scroll to Top